التطور التاريخي للنيابة العامة

ذهب معظم الباحثين إلى القول بأن ظهور النيابة العامة كجهاز يعود لى القرن الرابع عشر ميلادي حيث وجدت وثيقة بفرنسا والتي يلاحظ بعد تحقيقها أنها صدرت عن ملك فرنسا آنذاك فيليب الخامس والتي وجهها لوكلائه من أجل تمثيله في المحاكم الفرنسية والانتصاب نيابة عنه كأطراف في القضايا ذات الصلة بممتلكاته وأمواله، ومن هنا جاءت تسميتهم بالقضاة الواقفون.

أما بالنسبة للمغرب فإن التطور التاريخي للنيابة العامة مر عبر ثلاث مراحل : مرحلة ما قبل الحماية، مرحلة الحماية ومرحلة ما بعد الاستقلال.

والتشريع المغربي لم يعرف نظام النيابة العامة كمؤسسة قائمة الذات إلا عندما احتك بأوروبا عن طريق فرض الحماية على المغرب، فهذا النظام يعد من ضمن التراث القانوني الذي حملته فرنسا باعتبارها دولة حامية للمغرب ابتداء من معاهدة فاس المبرمة في 30 مارس 1912 . ذلك أن القضاء الإسلامي ظل يجهل هذه المؤسسة إلى أن دخلت أول مرة إلى المغرب بمقتضى ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي للحماية الفرنسية بالمغرب. غير أنها لم تتعد في ذلك الوقت المحاكم العصرية الفرنسية بسبب ثنائية التشريع الجنائي، لكن لسلطات الحماية تنبهت لأهمية مراقبة العدالة المخزنية الممارسة من طرف الباشاوات والقواد، وذلك بواسطة المراقب المدني والمندوب الحكومي، هذين الجهازين كانا يلعبان دورا يقترب أحيانا من دور النيابة العامة تم توسيع مهامهما فيما بعد بنصوص لاحقة، استعملت في خدمة السياسة الاستعمارية.

وبحصول المغرب على استقلاله، بادر إلى وضع قانون المسطرة الجنائية المغربي بتاريخ 10 فبراير 1959 ، الذي جاء نقلا حرفيا – مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة – لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية الفرنسي لسنة 1958 ، ناسخا بالتالي مهام النيابة العامة كما هي في القانون الفرنسي، والذي اعتبر مكسبا مهما في الحقل القانوني المغربي، عرف بعد ذلك جملة من التعديلات كان آخرها قانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية كما تم تعديله وتتميمه بمقتضى القانون رقم 23.05 والقانون رقم 24.05 .

تعريف جهاز النيابة العامة :

يعتبر جهاز النيابة العامة بالمغرب  الذي كان منعدما من ذي قبل بمفهومه الحقوقي والقانوني  من أبرز الآليات التي تم تأسيسها لتدعيم الإصلاحات القضائية التي تروم النهوض بقطاع العدالة؛ هذا الجهاز المجسد في إحداث وظيفة «وكلاء الدولة » بجميع المحاكم من أجل السهر على التطبيق السليم للقانون صونا وحفاظا على الحقوق فقد سطرت الكلمة الملكية بمناسبة توزيع ظهائر التولية على وكلاء الدولة الجدد ما يلي :

«الحمد لله وحده معشر وكلاء الدولة لدى المحاكم الإقليمية كلكم على علم بأن أول ما أوليناه أكيد اهتمامنا في مستهل العهد الجديد هو تحقيق السيادة المغربية في جميع مظاهرها. ومن البديهي أن من أبرز مظاهر السيادة أن يصبح القضاء بأيد مغربية وكان في مقدمة ما هَدَفْنا إليه تنظيم القضاء تنظيما يلبسه حلة مغربية خالصة ويجعله في جميع فروعه يتلاءم ومقتضى تطور البلاد وازدهارها. وكان من جملة ما أقررناه ضمن هذا التنظيم الجديد وظيف وكيل الدولة لدى المحاكم الذي هو من مستحدثات الوضع القديم، وأنتم تعلمون أن محتل هذا الوظيف الذي لم يُسمح للمغربي بتبوئه كان فيما سلف يتعدى نطاق مأموريته مما يخل باستقلال القضاء، إن إقرار وظيف وكيل الدولة ضرورة لا مندوحة عنها، ومن الضروري أن يصبح وكلاء الدولة بحكم الوضع الجديد ….. وعليكم أن تحرصوا على أن يكون القضاء مطهرا من جميع الأدران موفور الكرامة… .»

«مقتطف من الكلمة الملكية التي ألقيت بالرباط يوم الأربعاء 11 ذي القعدة 1375 – 20 يونيو »1956

هذا وقد سطرت المراسيم اختصاصات وكلاء الدولة التي تتمحور حول مراقبة تطبيق القانون وعدم التدخل في تسيير المناقشات التي تبقى من اختصاص قضاة الأحكام، حيث نص الفصل 15 من الظهير الشريف رقم 1.56.35 المؤرخ في 24 شعبان 1375 موافق 4 أبريل 1956 على أن (وكيل الدولة يحضر الجلسات بدون أن يسير المناقشات وأن لا يتدخل في الحكم).

تعتبر النيابة العامة ركنا أساسيا من أركان السلطة القضائية، تستمد أهميتها من كون أعضائها ينوبون عن المجتمع في إرساء مبادئ العدالة الجنائية التي يطمح ويسعى لتحقيقها وتثبيتها في إقامة العدل التي هي أحد الأسس المحورية التي تقوم عليها مهمة النيابة العامة. فهي قضاء خاص أوكل إليه المشرع مهمة التطبيق السليم للقانون الذي ينجم عنه ترسيخ العدالة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للأفراد والجماعات، إلى جانب دورها التقليدي في التصدي للجريمة من خلال إشرافها وتسييرها لعمل الشرطة القضائية وإقامتها وممارستها للدعوى العمومية في مواجهة الخارجين عن طوع القانون الجنائي.

ومن أهم مميزات النيابة العامة الاستقلال ووحدة أعضائها وخضوعها لمبدإ التسلسل الرئاسي الذي يَسِمُها بقضاء التعليمات التي غالبا ما تكون شفوية للسرعة والآنية في اتخاذ القرار التي يتطلبها عمل هذه المؤسسة بالرغم من كون الفصل 110 من الدستور يلزم أعضاء النيابة العامة بتنفيذ التعليمات الكتابية القانونية الصادر عن السلطة التي يتبعون لها. فلا ضَيْر في ذلك مادام أن التعليمات الصادرة إلى قاضي النيابة العامة من السلطة التي يتبع لها حين مزاولته لمهامه مطابقة للمقتضيات القانونية ولا تخالفها البتة مادام أنه ملزم بالتطبيق السليم للقانون تحت مراقبة ومسؤولية رؤسائهم الأعلين الذين لهم سلطة عليهم بصريح النص القانوني. وينبغي أن يفهم من ذلك أن عضو النيابة العامة له قدر كاف من الاستقلالية يضمن له القيام بعمله بدون أية ضغوطات أو تدخلات منافية للقانون ما دام أن صلب عمل النيابة هو إقامة العدل والوصول إلى الحقيقة، وهو لعَمْري طريق شاق ومحفوف بالمخاطر إذا لم يراع فيه حجم المسؤولية الملقاة على عاتق قاضي النيابة العامة وقداستها والنيابة العامة بمفهومها القانوني يطلق على جميع قضاتها سواء بمحكمة النقض أو محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، وذلك حسب ما نص عليه الفصل الأول من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.467 بتاريخ 26 شوال 1394 ( 11 نونبر 1974 ) الذي يكون النظام الأساسي لرجال القضاء، على فئة من القضاة : «يؤلف السلك القضائي بالمملكة هيئة واحدة تشمل قضاة الأحكام والنيابة العامة بالمجلس الأعلى ومحاكم الاستئناف والمحاكم .»

فهي الهيئة القضائية التي أوكل إليها المشرع ممارسة الدعوى العمومية طبقا للمادة 3 من القانون رقم 22 – 01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، وحضورها جميع جلسات محكمة النقض إلزامي حسب ما نص عليه الفصل 11 من الظهير الشريف المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة الذي نص صراحة على أنه : «يعتبر حضور النيابة العامة بمحكمة النقض إلزاميا في سائر الجلسات » .