كلمة السيد الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة بمناسبة الافتتاح الرسمي لندوة تمرين المحامي المنظمة من طرف هيئة المحامين أكادير، 13 -14 دجنبر 2018


17 دجنبر 2018

السيدات والسادة المسؤولون القضائيون والقضاة؛

السيدات والسادة النقباء والرؤساء والمحامون؛

حضرات السيدات والسادة؛

عَوَّدَتْنَا سوس العالمة على التمسك بالأصول والأعراف والتقاليد .. دون جمود أو انغلاق ..

وعودتنا سوس الحالمة على التطلع إلى التجديد والابتكار دون التفريط في القيم والأخلاق ..

بين سوس العالمة .. وسوس الحالمة مرتكزات مشتركة تربط الماضي بالمستقبل، فيبدو الحاضر استمراراً لثقافة تليدة بلباسها العصري الذي يساير الأذواق ..

هكذا تتمسك هيئة المحامين بأكادير كلميم العيون، بأعراف مهنة المحاماة وتقاليدها النبيلة، وهي تبني في نفس الوقت قواعد جديدة لمهنة المحاماة المتطلعة إلى استعمال التكنولوجيا الحديثة وسبر آفاق الحداثة والعالم الرقمي ..

واليوم يُخْتتم أسبوع حافل بعبق الأعراف وشذى تقاليد المهنة الراسخة، نظمته هيئة المحامين بأكادير منذ اليوم العاشر من هذا الشهر تحت مسمى : “أيام الأعراف والتقاليد المهنية”. ليعلن الافتتاح الرسمي لندوة التمرين ..

هكذا يجد المحامون المتمرنون أنفسهم وسط هذا الزخم الحضاري المتجدد .. ارتباط بتقاليد المهنة وأعرافها التليدة .. وتطلع إلى اكتساب مهارات الترافع والإلمام بمفاتيح تطوير المهنة.

لأجل هذه الحركية المتطورة التي لا تفرط في جوهر المهنة المنبعث من تاريخها الحافل ..

ولأجل اختيار أسبوع كامل للتأكيد على أعراف مهنة المحاماة وتقاليدها ..

ولأجل الدعوة الكريمة الموجهة إلى رئاسة النيابة العامة لحضور افتتاح ندوة التمرين برسم سنة 2018-2019، ومنحي فرصة الحديث إلى زملائي أعضاء هيئة الدفاع ..

لأجل كل ذلك، أشكركم السيد النقيب الفاضل، والمحامي الشهم البارع الأستاذ حسن وهبي ..

أشكر كافة زملائي أعضاء مكتب هيئة المحامين بأكادير المحترمين ..

أشكر كافة أعضاء الهيئة الأجلاء الأفاضل، نقباء ورؤساء سابقين ومحاميات ومحامين.

وأستأذنكم جميعاً في توجيه كلمتي إلى بناتنا وأبنائنا المحامين المتمرنين .. فهم محور هذا اللقاء .. وهم أمل المهنة ومستقبلها ..

أقول لهم : بناتي وأبنائي الأعزة.

ها أنتم تخطون خطواتكم الأولى في درب طويل يمر عبر متاهات وسراديب .. بعضها يغري بأضوائه وألوانه وألحائه وروائحه. متاهات ودروبا من دخلها أضاع طريقَةُ وضيَّع هدفَه .. ومن أغمض عينيه عن بريقَها .. وتجاهل إغراءاتها وواصلَ طريقه رغم الجهد والعطش، وتجاوزَ المساحاتِ الفارغة في سبيله، سيصل إلى هدفه ومبتغاه.

وأي هدف ومراد خير لكم من نيل صفة المحامي الشريف ..؟

أي غاية يمكن أن تشغلكم عن تسجيل أسمائكم في سجل المحامين الكبار العظماء .. ؟

أولئك الذين تمنى جلالة الملك المغفور له، الحسن الثاني طيب الله ثراه أن يكون واحداً منهم، فقال قولته الشهيرة “لو لم أكن ملكا، لكنت محامياً” .. أترون أي مهنة هذه عشقها واحدٌ من أكبر الملوك في التاريخ .. كما استهوت العديد من كبار رجالات الدول .. 

هذه المهنة التي شرفها جلالة الملك محمد السادس نصره الله فارتدى بذلتها )بمناسبة اجتماع المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب خلال شهر نونبر  2000(، تعبيراً عن التقدير الخاص الذي يوليه جلالته لهيئة المحامين، والتي يَعْتَبِرُ جلالة الملك، أنَّها تتقاسمُ مع أسرةِ القضاء أمانةَ إقامة العدل، الذي جعله جلالته أساس للمشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي ومبتغاه”.

ولكن الطريق إلى الهدف شاق وطويل .. فكما قال الفقيه الفرنسي جارسونيه : “فالمحامي يترافع في يوم واحد أمام محاكم متعددة بدعاوى مختلفة، ومنزلُهُ ليس مكاناً لراحته، ولا يَعْصِمُه  مِنْ  مضايقة عملائه .. فيقصدُه كلُّ من يريد أن يتخفف من أعْباء مشاكله وهمومه. ولا يكاد ينتهي من مرافعة طويلة، إلاَّ ليعالج مذكرات أطول. فعمله معالجة مختلف المشاكل وتخفيف أعباء الآخرين”.

اعلموا، حضرات المحامين المتمرنين، أنكم اخترتم مهنة تسمى مهنة المتاعب .. لأن متاعبها مختلفة .. فهي لا تكمن فقط في دراسة الملفات والوثائق والبحث عن النصوص والاجتهادات والتدقيق في الأوراق والشهادات .. وهذا عمل مضنٍ ومرهق ..

وليست متعبة فقط لأنها مهنَة حرة، تتطلب من ممارسها توفير مصاريف متعددة لمكتبه ومساعديه وعمله، ولمعاشه ورفاه أسرته .. ومرضه وتقاعده. وهي تحديات مُرْهِقَةٌ في زمن تكاد فيه الماديات تعصف بما تبقى من شذرات حياء ووفاء وأخلاق ..

ولا يتوقف عناؤها عند صعوبة التعامل مع العملاء والموكلين .. وهم أنواع وأشكال، تزيد مشاكلهم في تعميق حالاتِهِم النفسية، وأحياناً سلوكِهم وأخلاقِهم .. فيُقْبِلُ عليكُم بعضُهم وهو في حالة من الضَّعف والهشاشة ليجد فيكم عونا وسنداً .. أو يأتيكم مُخَاتِلٌ محتَالٌ وهو يرتدي لباسَ الورع والتقوى، ليكسب تعاطفكم معه وإيمانكم بقضيته ..

وقد تستمر المعاناة في علاقتكم مع زملائكم، ومع المحاكم والإدارات ومع بعض مساعدي العدالة .. فتختلف الرؤى والتوقعات .. ويحدث جدل واختلاف في تأويل النصوص وترتيب الآثار .. وهي محطات تُنْهِك الفكر وتحطم الأعصاب ..

كل تلك المعاناة وذاك التعب – رغم شدته وضراوته – لا يساوي شيئاً أمام العناء الأكبر الذي يسببه قيامكم بمهمتكم الأساسية الجوهرية، في أن تكونوا مساعدين أوفياء للعدالة.

إن إقامة العدل، وإن كانت تتطلب إعطاء الحقوق لأصحابها، وأنتم مستأمنون على المساهمة في ذلك بالدفاع عن حقوق موكليكم ومساندتهم حتى ينالوا حقوقهم. فإنها لا تدعوكم إلى مساعدتهم على كسب حقوقاً ليست لهم، أو مساعدتهم في الاستيلاء عن حقوق غيرهم ..

كما أنكم إن كنتم موكلين للدفاع عن متهمين، فإن دوركم ليس هو تبرئة الجناة أو إدانة الأبرياء .. من يفعل ذلك يكون قد خان الأمانة .. أمانة إقامة العدل بين الناس .. بل يكون قد أخل بأمن المجتمع وبأمنه الشخصي وأمن أهله .. وربما أمن أبنائه وبناته .. ليست مهمةُ المحامي أن يدافع عن سارق ليفلت من العقاب ويحوزَ براءةً ليَنْعَمَ بما سرقه .. ولا المساهمةُ في براءة مغتصِبٍ عاتَ فساداً في أعراض الناس، أو بتبرئة قاتل أزهق الأرواح .. فالعدالة الحقة تقتضي أن يحاسب كل واحد على ما أتاه .. وأن يعاقب على ما ارتكبه بالعقاب المقرر في القانون .. ودور المحامي أن يحافظ له على حقوقه ويجعله ينتفع بما قرره له المشرع من إجراءات، أو يستفيد من الظروف المناسبة لأحواله الصحية أو الاجتماعية والاقتصادية .. وليس مهمة المحامي مساعدته في طمس الحقيقة أو تغييرها من أجل الإفلات من العقاب .. فلربما إذا أفلت المغتصب على يديكم يوماً .. سيكرر فعله، وقد يعتدي على إحدى قريباتكم. وإذا أفلت السارق بسبب مساهمتكم .. أن يستهدف يوماً ما جيوبكم أو ممتلكاتكم ..

إن الحقيقة لا تدافع عن نفسها – بل لابدّ لها من مدافع يتسم بسمو الأخلاق ويتجلى بخصلة الوعي بالمسؤولية والإحساس بثقلها، لأن مهمته تتجاذبها عدة اتجاهات. فهو مطالب بالدفاع عن موكله والاستشارة والنصح السديد وخدمة العدالة وكذلك بالبحث عن الحقيقة التي تؤدي إلى الإنصاف.

أترون أي معاناة هذه .. أنتم مطالبون بالدفاع والمؤازرة .. ولكن في إطار محدد بقواعد وأعراف وقيم صارمة. واحترام هذه القواعد والأعراف والأخلاق هو الذي يُعطي لمهنة المحاماة نبلها وقداستها وشموخها.

بناتي وأبنائي المحامين المتمرنين ..

لقد اختزلتْ هيئتكم العتيدة هذه التقاليد والأعراف، واختصرت القيم والأخلاق التي أنتم مطوقون بها في الشعارات التي اختارتها لأيامها السابقة. فأرجو أن تتأملوا فيها بإمعان، وتتدبروا في معانيها باهتمام، بدءً من الشعار العام : “الأعراف والتقاليد المهنية مُثل وقيم. والالتزام بها واجب وفضيلة”.  فهذا الشعار يُنْزِل تقاليد مهنتكم وأعرافها منزلة سامية، ويجعلها مُثُلاً يقتدى بها وقيما يُسْتَرْشَدُ بها باعتبارها تمثل الفضيلة والسمو التي ترفع مهنة الدفاع لأسمى قيم النبل. وتجعل الالتزام بها في نفس الوقت واجباً، احترامُه مفروض، وفضيلةً، التمسكُ بها مبارك ومحمود .. 

كما أن هيئة المحامين وفرت عليكم مشقة البحث والتحري عن هذه الأعراف والتقاليد المهنية وجعلتها عناوين لأيامها الأربعة السابقة، فتأملوا في شعار اليوم الأول : “البذلة النظيفة والهندام الحسن ومبادئ السلوك المثالي عناصر أساسية لاكتمال الصورة”. ولا تعني نظافة البذلة فقط تطهير ثوبها وحسن ارتدائها وما يصاحبها من لباس، والاعتناء بأناقة المظهر، ولكنَّ نظافة البذلة الحقيقية تكمن في حسن سلوك المحامي الذي يرتديها وسمو أخلاقه، الدالة على صدق معاملاته وإخلاصه لمهنته ومحافظته على قيمها وأخلاقها .. فصورة المحامي النبيل لا تكتمل إلاَّ بجمالية الهيئة والسلوك معاً.

وأما شعار اليوم الثاني “علاقات الزمالة بين المحامين تضامن، وتعاون ومنافسة شريفة”، فهو يختزل قيماً مثلى تجعل علاقة المحامي بزملائه علاقة تعاون في خدمة العدالة، لا علاقة صدام ومشاحنة .. فمهما اختلفت وجهات النظر بين الفرقاء، ومهما تمسك المحامون بمواقفهم المعبرة عن حقوق موكليهم، فإنها لا يمكن أن تولِّدَ عداوات بين الزملاء. وإنما ينبغي أن تخلق تضامنا وتعاوناً من أجل خدمة العدالة، عن طريق الالتزام بقواعد المنافسة الشريفة .. فتمسكوا بهذا الشعار للحفاظ على لُحْْمَةِ الدفاع.

وأما علاقتكم مع القضاء ومكونات منظومة العدالة، فقد عبّر شعار اليوم الثالث عنها “بالاحترام المتبادل والتعاون في خدمة العدالة وصون الحقوق والحريات”. وإذا كانت خدمة العدالة وصون الحقوق والحريات هي القاسم المشترك بين مكونات العدالة المختلفة وفي مقدمتها الهيئة القضائية وهيئة الدفاع، مما يولد علاقة متينة وقوية بين هذه المكونات، فإن هذه العلاقة يجب أن تبنى على الاحترام المتبادل، وحفظ المقامات، وتقديس الواجب، وأن يوقر المحامي القاضي ويُجِلَّ مجلسَ القضاء .. وأنْ يحترمَ القاضي المحامي ويرفع من شأن مهنة الدفاع.

وقد أكمل اليوم الرابع إطار الصورة باعتبار العلاقة مع الموكلين والأغيار “مسؤولية وحرية وتجرداً واستقلالاً”. وهي ألفاظ ذات حمولاتٍ كبيرة وأبعادٍ عميقة .. فبقدر ما يكون المحامي مسؤولاً عن حقوق موكليه وحقوق الأغيار، مما يلزمه ببذل العناية الفائقة في الحفاظ على مصالحهم والدفاع عن حقوقهم، فإنه يجب ألا يكون عبداً لهم .. فحريته تفرض عليه تمثيلهم والدفاع عنهم أو مؤازرتهم دون محاولة لتغيير الحقيقة أو جَحْدِ الحقوق .. ليست الحرية أن يبحث المحامي عن مصلحة موكله كيفما اتفق وهدراً لقيم العدالة والانصاف. فالتجرد يجعل المحامي يمثل موكله فيما يحق له، ويحول دون تقديم النصيحة بما يغير الحقيقة العادلة .. أن يكون المحام متجرداً معناه أن يمتنع عن نصح موكله بإنكار جريمة القتل التي ارتكبها، ولو أمكنهُ الدفاع عنه، فلا يُمكنه أن يلقنه ما يخالف مبادئ العدالة للإفلات عن العقاب … فالمحامي مستقل في عمله، مستقل في رأيه حتى حين يعبر عن رأي موكليه .. هكذا اختزل شعار اليوم الرابع هذا أشد قيم المهنة صرامة .. ودعاكم للملاءمة بين الواجبات المختلفة التي تطوقكم بها مهنة المحاماة : مسؤولية أمام الموكلين. ومسؤولية أمام الأغيار، بمن فيهم باقي الأطراف في الدعوى .. وحرية في التحرك واختيار أسلوب الدفاع وتجرد من أحاسيس الحقد والضغينة … والحب والوفاء، في سبيل الإخلاص لمبادئ العدل السامية … وكذلك استقلالٌ عن المؤثرات التي يمكن أن تزيغ بدور المحامي عن خدمة هذه المبادئ.

فيكفيكم أن تتقيدوا بهذه الشعارات وتطبقوها لتصلوا إلى الهدف دون أن تنال منكم ألوان وأضواء الاغراءات التي تحيط بالطريق .. ولا أن تشل من عزمكم الفراغات القاتلة التي قد تصاحب السبيل. ولكم في نقبائكم وقيدوميكم أمثلةٌ يُقْتَدى بها .. فاختاروا أحسن القُدْوات واتَّبعوا أنبل التجارب. وأخلصوا لمبادئ مهنتكم، فهي حلم للعظماء، وعنوان للمجد والشموخ، ولسان للحق والعدل وسيف يواجه الظلم والباطل.

وفقكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته