كلمة السيد الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة خلال المؤتمر الدولي للعدالة بمراكش


2 أبريل 2018

السادة الرؤساء الأولون لمحاكم النقض؛

السادة المحامون العامون لدى محاكمة النقض؛

السادة وزراء العدل؛

السادة رؤساء الوفود؛

أصحاب المعالي؛

أصحاب السعادة؛

ضيوفنا الكرام؛

حضرات السيدات والسادة؛

منذ عام مضى، ولدت سلطة ثالثة ببلدنا، أعلن جلالة الملك محمد السادس نصره الله عن تأسيسها بتنصيب مجلسها الأعلى يوم سادس أبريل 2017 بمدينة الدار البيضاء. واليوم، ها نحن نجتمع بمدينة مراكش للاحتفاء بالسنة الأولى من عمر السلطة القضائية الفتية. عام مارست فيه هذه السلطة صلاحياتها باستقلال تام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية تطبيقا للدستور.

وإذا كان المجلس الأعلى للسلطة القضائية قد تأسس بتاريخ 6 أبريل من السنة الماضية، فإن اكتمال استقلال السلطة القضائية لم يكتمل في واقع الأمر إلاَّ بتاريخ 07 أكتوبر 2017 الذي تم فيه نقل السلطات على النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة.

أصحاب المعالي؛

أصحاب السعادة؛

حضرات السيدات والسادة؛

إن مطلب العدالة بمختلف تفريعاتها وتجلياتها جعل من القضاء قطب الرحى في انتظارات الأفراد ومشاريع المؤسسات ومخططات الدولة، فالقضاء معول عليه في حماية حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم الأساسية، وفي صون الأمن والنظام العام، وفي تحقيق الاستقرار الأسري وضمان استمرارية نشاط المقاولة والحفاظ على مناصب الشغل وتحقيق السلم الاجتماعي وتأمين فعالية القاعدة القانونية وتحيينها أمام التطور التكنولوجي والتقني بما لا يخل بالأمن القانوني المشروط في تلك القاعدة، فضلا عن المساهمة في تخليق الحياة العامة وحماية المال العام والملكية الخاصة وحماية الفئات الهشة والضعيفة، وضمان سيادة القانون والمساواة أمام أحكامه، وهو ما سبق وأن عبر عنه بجلاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة افتتاح جلالته لأشغال المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15 دجنبر 1999، إذا قال حفظه الله : “إن العدالة كما لا يخفى هي الضامن الأكبر للأمن والاستقرار والتلاحم الذي به تكون المواطنة الحقة، وهي في نفس الوقت مؤثر فاعل في تخليق المجتمع وإشاعة الطمأنينة بين أفراده وإتاحة فرص التطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي وفتح الباب لحياة ديمقراطية صحيحة تمكن من تحقيق ما نصبو إليه من آمال”. )انتهى النطق الملكي(.

إن المسؤولية الجسيمة والأدوار الصعبة الملقاة على عاتق القضاة تستدعي اهتمامنا جميعا بالسلطة القضائية وتوفير الإطار القانوني والمؤسساتي لضمان استقلالها، وتسخير الوسائل والإمكانيات التي تمكنها من الاضطلاع بمهامها بنجاعة وفعالية وحياد وتجرد.

وإذا كانت أدوار القضاء قد تطورت على مر التاريخ حتى أصبحت المواثيق الدولية والدساتير المتقدمة تجمع على اعتباره سلطة مستقلة ومساوية لباقي السلط. وهو عهد دستوري جديد يحيل على الأوضاع التنظيمية للأمم، بعدما عرفت محطات من تاريخ البشرية هيمنة السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية، بدرجات متفاوتة حسب الأنظمة القضائية، وحصر دور القضاء في نطاق ضيق لا يتعدى “قول القانون”، حسب التعبير الذي كان يستعمله شراح القانون الروماني. وقد عرفت المملكة المغربية بدورها محطات تاريخية تطور عبرها القضاء المغربي تدريجيا، من بينها محطة قضاء الفقهاء والعلماء الذين كلفوا بالفصل في المنازعات وسماع تظلمات الناس، وقد خلفوا من ورائهم تراثا فقهيا وقضائيا يوثق لمعالم الحضارة المغربية العريقة، ثم حلت محطة تحول فيها قضاء المغرب إلى قضاء عصري، تطورت هياكله وتنظيماته وصلاحياته على ضوء تطور الدساتير المغربية المتتالية، قبل أن يتم الارتقاء بالقضاء إلى مستوى سلطة ثالثة في الدولة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية بموجب دستور المملكة لسنة 2011، الذي نص على أن “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، وأن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية”، وجعل من استقلال القاضي واجبا لا حقا وحمله مسؤولية حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وامنهم القضائي وتطبيق القانون، وتبليغ كل ما يهدد استقلاله للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، هذا الأخير الذي يعرف تمثيلية متنوعة ومختلطة بين القضاة وممثلي هيئات حقوقية وشخصيات أخرى مشهود لها بالنزاهة الفكرية والحس الحقوقي العالي. وهو اختيار دستوري يؤكد أن القضاء لم يعد مؤسسة منغلقة وإنما هو شأن مجتمعي، يهم الجميع ويساهم في صون استقلاليته الجميع.

وفي ظل هذه الدينامية الدستورية والقانونية التي عرفتها بلادنا بدءا من دستور سنة 2011 وما تلاه من نصوص قانونية على رأسها القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، نشأ المجلس الأعلى للسلطة القضائية يوم 6 أبريل 2017 ليعلن العد العكسي لاستكمال بناء الهياكل القيادية للسلطة القضائية بعد ستة أشهر من ذلك التاريخ حيث اكتمل استقلال السلطة القضائية يوم سابع أكتوبر 2017 بنقل السلط على النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض الذي أصبح رئيسا لها منذ ذلك التاريخ، وأنيطت به مهام قيادة النيابة العامة والإشراف على مهامها التي حددها جلالة الملك رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمقتضى ظهير تعيين الوكيل العام للملك، والذي تضمن الأمر لرئيس النيابة العامة بصفته رئسا للنيابة العامة والمسؤول القضائي الأول عن حسن سيرها بالدفاع عن الحق العام والذود عنه، وحماية النظام العام والعمل على صيانته متمسكا هو والقضاة العاملين تحت إمرته بضوابط سيادة القانون ومبادئ العدل والإنصاف التي ارتآها جلالة الملك “نهجا موفقا لاستكمال بناء دولة الحق والقانون، القائمة على صيانة حقوق وحريات المواطنين، أفرادا وجماعات، في إطار من التلازم بين الحقوق والواجبات”.

وهي التعليمات السامية التي تنضبط لها النيابة العامة في عملها اليومي، إذ رغم حداثة التجربة التي انطلقت بتاريخ 07 أكتوبر 2017، فإن رئاسة النيابة العامة ما فتئت تتفاعل مع اهتمامات المواطنين وانتظاراتهم لاسيما فيما يتعلق بالحرص على حسن تطبيق القانون وحماية حريات المواطنين وعدم إمكانية المساس بها، طبقا للإجراءات والشروط المحددة في القانون، وإيلاء العناية اللازمة لقضايا الفئات الخاصة وعلى رأسها المرأة والطفل، مع الحرص على صون الأمن والنظام العام.

وستواصل النيابة العامة تطوير عملها خدمة للوطن والمتقاضين في حرص تام على ضمان الأمن والاستقرار وتخليق الحياة العامة وتوفير المناخ الملائم للنمو الاقتصادي والاجتماعي وتشجيع الاستثمار وحماية استقرار الأسرة وحماية الممتلكات ومواجهة الإجرام المنظم بتعاون مع المؤسسات والهيئات الوطنية والدولية.

أصحاب المعالي؛

أصحاب السعادة؛

حضرات السيدات والسادة؛

إن استقلال السلطة القضائية لا يمكن أن يتحقق من خلال الدساتير والقوانين وحدها، بل إن استقلال السلطة القضائية هو فضلا عن ذلك، ممارسة وأعراف وتراكمات، فلا يمكن الحديث عن الاستقلال الحقيقي للسلطة ما لم يؤمن القاضي قبل غيره باستقلاله وتجرده عن الأهواء والتأثيرات بمختلف أشكالها وألوانها، ولا يمكن الحديث عن استقلالية السلطة القضائية ما لم يؤمن كل المتدخلين في حقل العدالة بحتمية هذه الاستقلالية، وتظافر جهودهم جميعا لتحقيق هدف أسمى وأوحد، هو ضمان اشتغال الآلية القضائية بتجرد وحياد واستقلالية.

كما أن استقلال القضاء ليس مزية للقاضي تحصنه وتحول بينه وبين المساءلة والمحاسبة الدستورية، ولكنها قاعدة قانونية وضعت لفائدة مبادئ العدل والانصاف ولحماية القضاة من كل تأثير أو تهديد يمكن أن يحيد بقراراتهم وأحكامهم عن تطبيق تلك المبادئ والالتزام باحترام القانون وتطبيق المساطر بعدالة ونزاهة وحياد.

وبالنظر إلى أن الفصل التام بين السلط الثلاث للدولة أمر غير ممكن، فإن التطبيق الأمثل لمبدأ الفصل بين السلط يقتضي خلق آليات للتعاون والتكامل ضمانا لوحدة الدولة ودينامية وفعالية مؤسساتها، من غير أن يكون هذا التعاون مبرراً لأن تسلب إحدى السلط اختصاصات السلط الأخرى، فالسلطة القضائية يمكن أن تكمل التشريع من خلال تفسير القانون ومن خلال الاجتهاد القضائي، ولكنها لا يمكن أن تضع قواعد قانونية ملزمة. كما أن هذه السلطة القضائية يمكن أن تكمل عمل السلطة التنفيذية عبر اتخاذ بعض القرارات الولائية لإدارة الدعوى، ولكنها لا يمكن أن تحل محل الإدارة في اتخاذ القرارات التي تدخل في صميم اختصاصاتها. وبالمثل، فإن مجالات التماس بين عمل السلطة القضائية وبين عمل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، يجب أن لا تفضي إلى التدخل في شؤون القضاء. وهو ما يقتضي أ ن تفسر النصوص وفق ما يعزز استقلال السلطة القضائية، وأن تدفع الممارسة اليومية في اتجاه ما يضمن هذه الاستقلالية ويصونها، ما دام أن هذا الهدف تقرر دستوريا وقانونيا خدمة للمواطن والقانون لا خدمة لأعضاء السلطة القضائية.

أصحاب المعالي؛

أصحاب السعادة؛

حضرات السيدات والسادة؛

إن الرهان الكبير على إنجاح التجربة المغربية في مجال العدالة هو تمرين شاق وطويل يتطلب منا جميعا تطوير أدائنا في حقل العدالة. مستحضرين في ذلك القيم المثلى للعدل، وإحقاق الحق والمساواة أمام القانون، لكسب ثقة المواطن في القضاء وترسيخ حكم القانون وسموه في نفوس أفراد المجتمع. وهو ما يقتضي توفير النصوص القانونية الموضوعية والإجرائية المواكبة لانتظارات المواطنين وتطور حاجياتهم من العدالة، ووضع مخططات مستقبلية تستحضر مناهج التخطيط الاستراتيجي المبني على الأهداف للارتقاء بمرفق العدل، مع توفير الموارد البشرية والامكانيات المالية اللازمة من أجل تحقيق تلك الأهداف، وذلك في ظل منهج قائم على المشاركة والتعاون والتنسيق والحوار بين كافة المتدخلين في حقل العدالة

حضرات السيدات والسادة؛

لئن كانت رئاسة النيابة العامة ممتنة لكم على حضوركم هذه الندوة ومشاركتنا في هذا الحفل الذي يخلد للذكرى الأولى لتأسيس السلطة القضائية المغربية المستقلة، وهو يدعوني إلى تقديم الشكر إلى جميع ضيوفنا الذين شرفوا المملكة المغربية، وازداد بوجودهم جمال مراكش، فإنني أؤكد على أن مثل هذه اللقاءات ليست مجرد مناسبة للاحتفالات بحدث تاريخي كبير فقط، ولكنها فرصة لتبادل الآراء والأفكار والتعرف على التجارب والخبرات المقارنة. وهي كذلك مناسبة سانحة للتعرف على ضيوفنا من دول أخرى من قضاة ومحامين وأطر للعدل، لما نتقاسمه من اهتمامات مشتركة تتعلق بأساليب تنظيم مجالات العدالة ومن ممارسات فضلى لأداء المحاكم والمؤسسات القضائية. وأيضا لتسهيل التواصل مع نظرائنا من دول أخرى الذين شرفونا بحضورهم.

فمرحبا بكم جميعا، حللتم أهلا ونزلتم سهلا.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.