القضاء من خلال الخطب الملكية السامية

نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب - تطوان 20 غشت 2007

“الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.

شعبي العزيز، يتزامن احتفاؤنا اليوم، بمشاعر الاعتزاز، بذكرى ثورة الملك والشعب الخالدة، وبعيد الشباب المجيد، مع الانطلاقة الرسمية الوشيكة للحملة الانتخابية، لاقتراع سابع شتنبر المقبل.

ففي هذا الموعد، الذي يشكل مرحلة متقدمة في مسارنا الديمقراطي، ستختار بإرادتك الحرة، بين برامج ومرشحي الأحزاب المتنافسة، لعضوية مجلس النواب الجديد.

وكما وعدتك في خطاب العرش، فإنني أتوجه إليك، في موضوع الانتخابات، لا للتأثير أو التدخل فيها، الذي حرمته على نفسي مثلما يمنعه القانون على الجميع، باعتبار نزاهة الانتخابات هي جوهر الديمقراطية وروحها.

فالالتزام التام بنزاهة الانتخابات وتخليقها، وبحرمة الاقتراع، يبدأ من خديمك الأول، الملك أمير المؤمنين، رمز وحدة الأمة، بكل مكوناتها، وحامي حمى الملة والدين، الحريص على مصالحك العليا، بجعلها تسمو فوق أي اعتبار، مستحضرين تطورنا السياسي، بمكاسبه الكبرى.

وهكذا، أصبحت الانتخابات منتظمة، بيد أن الانشغال بها لا يعني التأثر السلبي بظرفيتها وانتظار تنصيب الحكومة القادمة، وهذا ما يقتضي أن تتحمل كل المؤسسات والفاعلين مسؤولياتهم في عمل مستمر. فالقضايا المصيرية، والأوراش والإصلاحات الهيكلية الكبرى، وضمان الأمن والاستقرار، لا تقبل التوقف والانتظار.

وبعون الله، فقد تمكنا جميعا من توفير إطار عصري وفعال، محفز على المشاركة المواطنة، من معالمه البارزة: مدونة انتخابية حديثة، تفسح مجال المشاركة المتكافئة لكل الأحزاب في الاقتراع، قانون جديد لتأهيل الأحزاب وتمويل شفاف لعملها، حياد إداري إيجابي وحازم، مراقبة قضائية مستقلة، حضور فاعل للمجتمع المدني، ولوسائل الإعلام، في التوعية والمتابعة، فضلا عن التمثيل النسوي، الذي نريده أكثر إنصافا للمرأة.

وهذا ما جعل الممارسة السياسية تبلغ مرحلة متقدمة من النضج، حيث تتنافس على كسب ثقة الناخبين أغلبية تدافع عن حصيلة عملها ومشاريعها المستقبلية وتحاسب عليها، وفي مواجهتها، معارضة متعددة، تأخذ بعين الاعتبار المكاسب الوطنية وتقترح برامجها البديلة في إطار انتخابات تنافسية.

وبدورها، فإن الحملة قد عرفت تجديداً ملحوظاً، في شكلها ومضمونها ومراحلها، فهي لم تعد مجرد فرصة موسمية عابرة لرفع شعارات حماسية ومطالب نضالية عامة، أو مطية للتضليل والتدليس، بل أصبحت مفتوحة ومتضمنة لبرامج متعددة يتم التعريف بها بوسائل اتصال حديثة ومضبوطة.

ومهما يكن التقدم السياسي الذي حققناه، فهل يجوز القول: إننا قد بلغنا درجة الكمال الديمقراطي؟ وهل من المعقول النزوع إلى تحجيم الاقتراع باعتباره مجرد حلقة دورية، في مسلسل انتخابي معتاد؟ كلا، إن للانتخابات حرمتها ودورها الحاسم في اختيارك، شعبي العزيز، لمن يدبر الشأن العام ويراقبه، أغلبية ومعارضة. كما أنها تساهم، بإرادتك الحرة، في بلورة أسبقيات الولاية التشريعية الجديدة. لذلك، لا ينبغي تبخيس قيمتها أو التشكيك في جدواها. كما أنه لا مبرر للمبالغة في تهويلها وكأنها غاية في حد ذاتها أو نهاية مطاف المسار الديمقراطي الذي لا حد لكماله.

وعلى هذا الأساس، أقول لموا طنينا: إن الانتخاب من مقومات المواطنة المسؤولة، ولإعطاء عملية الاقتراع شحنة قوية ودائمة، يتعين دعمها بالمشاركة الديمقراطية، مشاركة موصولة لا تنحصر في يوم الاقتراع، بل تتطلب الانخراط الدائم في أوراش التنمية والمواطنة.

إنكم بالإدلاء بأصواتكم، لا تختارون من يمثلكم للسنوات الخمس المقبلة فقط، وإنما تحددون أيضا مستقبلكم ومستقبل أبنائكم وبلدكم. فعليكم ألا ترهنوا مصيركم ببيع أصواتكم وضمائركم لمن لا ضمير ولا أمانة له، ففي ذلك تنازل منبوذ عن حقكم الدستوري في الانتخاب الحر، وتفريط غير مقبول في شرف مواطنتكم وكرامتكم.

لذا، يتعين على الجميع التصدي، بروح المواطنة وقوة القانون، للعابثين بالانتخابات والمتاجرين بالأصوات ولإفسادها بالمال الحرام والغش والتدليس والتزوير. فلا مكان للممارسات المخالفة للقانون، في كل المجالات، مهما يكن مرتكبوها. فمحاربة الرشوة والفساد واستغلال النفوذ وإقطاعيات الريع وتوزيع الغنائم مسؤولية الجميع: سلطات وهيآت، مواطنين وجماعات، وذلكم في نطاق دولة المؤسسات والحكامة الجيدة.

وإننا لندعو مواطنينا، للانخراط في العمل السياسي النبيل، غايتنا المثلى توسيع المشاركة الشعبية في التنمية. فمن لا يمارس السياسة الفاضلة بالمواطنة الملتزمة، فإن السياسة الرذيلة تستغله بالأساليب التضليلية لأغراض مقيتة: انتهازية أو عدمية مرفوضة، متطرفة أو إرهابية محرمة. لذا ينبغي مواصلة التصدي لنزوعاتها ولكل أعداء الديمقراطية، سلاحنا في ذلك، الدولة القوية للحق والمؤسسات، والتنمية الشاملة، والأمن الحازم، وسلطة القضاء المستقل، الحريصين على الالتزام التام للجميع بسيادة القانون.

فالسياسة ليست حكرا على فئة معينة، وإنما هي شأن كل المغاربة في الداخل والخارج. وفي هذا الإطار، ستعرف هذه الانتخابات، مكسبا جديدا، بتعميم حق المشاركة فيها، بأرض الوطن، على كافة أجيال جاليتنا العزيزة المقيمة بالخارج، مؤكدين لهم فائق عنايتنا بصون كرامتهم، وتعزيز مواطنتهم الكاملة. وما هذه المشاركة الانتخابية إلا خطوة أولى في مسار تشاوري متدرج غايته إدماجهم المشروع في مختلف المؤسسات التنفيذية والنيابية والاستشارية الوطنية.

وفي نفس السياق، ستكون الخطوة المقبلة، في المشاركة المؤسسية الفعالة لجاليتنا بالخارج، هي إحداث مجلسها الأعلى ريتما يرفع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، مقترحاته بشأنه، إلى نظرنا السديد. وذلك لتنصيبه في الأمد القريب.

شعبي العزيز، باعتبار الأحزاب فاعلا أساسيا في كسب رهان أي اقتراع، فإنني أتوجه إليها بالقول : إنه لا ديمقراطية حقة، بدون أحزاب قوية، أحزاب فاعلة متحملة لمسؤوليتها في جعل الانتخابات تنافسا شريفا بين مشاريع مجتمعية ، وليس لخوض صراعات شخصية أو استعمال الديماغوجية. فالتنافس التنموي هو المحك الفعلي للممارسة الديمقراطية السليمة.

لذلك يتعين على الأحزاب، العمل الميداني على توعية وتحفيز الناخبين على المشاركة، ببرامج واضحة، قابلة للتطبيق. وفي نفس السياق، نجدد تعليماتنا لحكومتنا، لمواصلة اعتماد الحياد الملتزم بسيادة القانون في مختلف مراحل العملية الانتخابية، وذلك بالردع القوي والزجر الحازم لكل الخروقات.

كما نؤكد على الدور الحاسم للقضاء في صيانة حرمة الاقتراع ومحاربة الفساد بكل أنواعه والبت في صحة الانتخاب في كل مراحله، بتنسيق بين كافة السلطات العمومية التي أناط بها القانون مسؤولية تنظيم الانتخاب ومراقبة نزاهته.

كما أن على العدالة، ولاسيما قضاء النيابة العامة، التحلي بالمزيد من اليقظة والتعبئة، وإجراء التحريات، بكل موضوعية وتجرد، في كل الشكايات والطعون. أما البت فيها، فيعود لقضاء الحكم، بما يلزم من سرعة ونزاهة وصرامة، وفي استشعار لكون العدل من أمانة أمير المؤمنين، الضامن للاستقلال التام للسلطة القضائية، عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وفي احترام لمبدإ فصل السلط، وعدم الانسياق لأي تأثير على الالتزام الواجب للقاضي، في كل القضايا، بالتقيد بسيادة القانون.

وبفضل ما تعرفه بلادنا من تحديث ديمقراطي، فإن إنجاح الانتخابات المقبلة، يقتضي الانخراط المسؤول لوسائل الإعلام، ولفعاليات المجتمع المدني في توعية المواطنين ومتابعة الانتخابات وملاحظتها إلى جانب مختلف الهيآت المعنية، كل في مجال اختصاصه، وفي طليعتها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان باعتبار حرية الانتخاب من الحقوق الإنسانية الأساسية.

وإننا لنتطلع إلى أن يسمو كافة الفاعلين إلى المستوى الأمثل لإيثار المصلحة العليا للوطن. وفي هذا الصدد، ندعو ،على وجه الخصوص، الأحزاب، التي نكن لها كل التقدير، لاحترام الإرادة الشعبية الحرة وتنزيه الاقتراع عن كل الشبهات والتركيبات المصطنعة والحسابات الضيقة التي لا نرتضيها لمصداقية المشهد السياسي السليم المنشود.

شعبي العزيز، لقد شكلت ثورة الملك والشعب، ملحمة تاريخية، من أجل حرية الوطن والمواطنين.

فبفضل التضحيات الجسام، التي بذلها جيل الوطنية، حررنا ووحدنا تباعا، أجزاء الوطن.

وها نحن اليوم، نواصل النضال ضد أي محاولة للنيل من سيادتنا ووحدتنا الترابية.

كما نقود، بكل ثقة وحزم، مسيرة تجديد هذه الثورة، لبلوغ هدفها الأسمى والأصعب، ألا وهو تحفيز المبادرات الخلاقة، لكل مواطن ومواطنة، وتشجيع استثمارها المنتج ، هدفنا الأسمى توفير أسباب العيش الحر الكريم لكل المغاربة.

وفي ذلكم خير وفاء، لأرواح أبطال ثورة الملك والشعب الخالدة، وفي مقدمتهم جدنا ووالدنا، المنعمان جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني أكرم الله مثواهما، ولتضحيات كل الشهداء والمناضلين الأ برار. كما أنه خير سبيل لتكريم مواطنينا وشبابنا، الذي نحرص على تأهيله وتحفيزه على العمل، حاملا مشعل المواطنة، كما حمل أسلافه مشعل الوطنية.

وبنفس روح الغيرة الوطنية الصادقة، والمواطنة المسؤولة، ستجدني، شعبي العزيز، كما عهدتني دوما، ناهضا بأمانة قيادة كل مكونات الأمة، من أجل مواصلة بناء مغرب التقدم في تشبث بهويته الأصيلة.

إنه المغرب التنموي الديمقراطي الذي يجب عليك استحضاره، شعبي العزيز، دوما وعلى مدى الحملة، ولا سيما عندما تخلو مع ضميرك الحي، في معزل التصويت، حيث ستختار لنفسك ولوطنك، بكل حرية ومسؤولية، الأجدر بتقلد أمانة النيابة عنك بما تفرزه صناديق الاقتراع باعتبارها سلطة الاحتكام الديمقراطي، المجسد لحسمك بين برامج وخطابات متعددة، سائلين الله تعالى أن يجعلنا جميعا، من “”الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه””. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة الذكرى التاسعة لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين - فاس 30 يوليوز2008

” الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.

شعبي العزيز، لقد حرصت، منذ توليت أمانة قيادتك، على أن أجعل من خطاب العرش محطة لترسيخ الخيارات الكبرى، واستشراف التوجهات المستقبلية، التي نسهر دائماً على بلورتها، بروح الثقة، وبعد النظر، والإرادة القوية، في وفاء للبيعة، بما تقوم عليه من التزامات متبادلة بين العرش والشعب.

وكما عهدتني، فقد ارتأيت أن أجعل من هذه المناسبة، فرصة لمشاطرتك الصادقة الانشغال العميق بإيجاد أنجع السبل لتجسيد إرادتنا الراسخة في توفير العيش الكريم لكل أبناء وطننا العزيز.

وبنفس الحزم، أريد أن أجعل من خطابي لك اليوم، وقفة مسؤولة للإجابة على التحديات والرهانات المطروحة على بلادنا، وذلك في سياق ظرفية دولية صعبة، مطبوعة بتقلبات الاقتصاد العالمي، غير المسبوقة، والمتمثلة في الارتفاع المهول لأسعار الطاقة والمواد الغذائية الأساسية ، وتراجع النشاط الاقتصادي، في العديد من البلدان ولاسيما المتقدمة منها.

وهو ما كان له تداعيات على القدرة الشرائية للفئات المعوزة والمتوسطة وعلى اقتصادنا على غرار كافة بلدان المعمور.

وقد استطاع بلدنا، ولله الحمد، مواجهة هذه الإكراهات، وذلك بفضل نجاعة الأوراش والإصلاحات التنموية التي نقودها، والتي بدأت تعطي ثمارها، وهو ما مكن نسيجنا الاقتصادي والاجتماعي، من التصدي لصعوبات المحيط الجهوي والدولي.

وقد تجلى ذلك، في مواصلة المغرب لتقدمه بخطى ثابتة لتوطيد البناء الديمقراطي وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الحفاظ على توازناته الما كرو- اقتصادية والمالية وخلق أقطاب جهوية للتنمية، وتقوية قدراته على خلق فرص الشغل وتحسن المؤشرات الاجتماعية.

ومهما كان تحسن هذه المؤشرات، فإنه لا ينبغي أن يحجب عنا أن الطريق ما يزال شاقاً وطويلا لتحقيق طموحنا الكبير في الرفع من معدلا ت التشغيل باعتباره يشكل الحماية الاجتماعية الحقيقية لمواطنينا ولشبابنا على الخصوص.

ولن يتأتى ذلك، إلا بالرفع من وتيرة النمو والتوزيع العادل لثماره وتحرير المبادرات الخلاقة المدرة للثروات ولفرص العمل.

كما يتعين توطيد المكانة المركزية لمؤسسة الأ سرة وتعزيز دينامية المجتمع المدني وفعالياته المسؤولة للنهوض بالتكافل الاجتماعي والمواطنة التضامنية، في تشبث دائم بقيمنا العريقة الدينية والثقافية القائمة على الاعتدال والوسطية.

لذا، نؤكد إرادتنا الراسخة، في ضرورة أن يكون الهدف الاستراتيجي لكافة السياسات العمومية، هو توسيع الطبقة الوسطى ، لتشكل القاعدة العريضة وعماد الاستقرار والقوة المحركة للإنتاج والإبداع.

وإن عزمنا لوطيد على جعل الفئات الوسطى، مرتكز المجتمع المتوازن، الذي نعمل على بلوغه، مجتمع منفتح لا انغلاق فيه ولا إقصاء، مجتمع تتضامن فئاته الميسورة، باستثماراتها المنتجة ومبادراتها المواطنة وما تدره من شغل نافع، مع غيرها، في المجهود الوطني الجماعي للنهوض بأوضاع الفئات المعوزة وتمكينها من أسباب المواطنة الكريمة.

شعبي العزيز، مهما كانت أهمية الإصلاحات والأوراش الكبرى، فلن تعطي ثمارها كاملة إلا بتسريع وتيرة النمو لتواكب الحاجيات المتزايدة ، وهو ما يقتضي الحسم في الخيارات المطروحة.

فهل نكتفي بحلول ظرفية محدودة الأثر ؟ أم نواصل خياراتنا الاستراتيجية التي يتعين مضاعفة الجهود لإنضاج وجني ثمارها ؟ كلا. فتحديات مغرب اليوم، لا يمكن رفعها بوصفات جاهزة أو بإجراءات ترقيعية أو مسكنة أو بالترويج لمقولات ديماغوجية ترهن الحاضر بالهروب إلى مستقبل نظري موهوم.

إن أساس نجاح أي إصلاح، يكمن في ترسيخ الثقة والمصداقية والتحلي بالأمل والعمل والاجتهاد، وعدم الانسياق لنزوعات التيئيس والتشكيك والعدمية، خاصة في الظروف الصعبة . ومهما كانت محدودية النتائج الآنية، فإن المبادرة والمثابرة والنفس الطويل، يجب أن تكون عماد تدبير الشأن العام.

لذا، نهجنا، بكل وثوق، خيار التنمية الهيكلية والبشرية، في حرص على توازن مسارها الشاق والطويل، بحيث لا تتم التضحية بمستقبل البلاد وأجيالها الصاعدة لفائدة اعتبارات آنية أو ظرفية. ولا مجال لعدم تلبية حاجيات ملحة، باسم نظرة قد تكون بعيدة المدى، ولكنها تتجاهل الواقع المعيش.

ومن ثمة، كان عملنا الدؤوب، على تحقيق تنمية مستدامة. تسير على سكتين متكاملتين.

فمن جهة، نحرص على إنجاز الأوراش التنموية الكبرى، وبموازاة ذلك، وعلما منا بأنها لا تعطي ثمارها في الأمد المنظور، نعمل بمواكبتها، بتحسين المعيش اليومي الملح للمواطن بالبرامج المحلية لمحاربة الفقر والهشاشة.

وهو ما نعمل على بلوغه بجعل تحرير المبادرات وتعبئة الطاقات، قوام المشاريع المندمجة والملموسة، لمبادرتنا الوطنية للتنمية البشرية، مؤكدين تعهدها بالوقوف الميداني والتقويم المستمر، لتوطيد المكاسب والتصدي لمكامن الخلل، غايتنا المثلى وضع الإنسان في صلب عملية التنمية، في مغرب نريد أن تكون موارده البشرية ثروته الأساسية.

شعبي العزيز، إن النهج القويم للإصلاح يرتكز على ترسيخ ثقة المواطن في سيادة القانون والأمن القضائي.

ومن هنا، نحرص على مواصلة تحديث جهاز القضاء وصيانة استقلاله وتخليقه، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم ، وإنما أيضاً لتوفير مناخ الثقة والأمن القضائي، كمحفزين على التنمية والاستثمار.

لذا نجدد التأكيد، على جعل الإصلاح الشامل للقضاء في صدارة أوراشنا الإصلاحية.

ولهذه الغاية، ندعو حكومتنا للانكباب على بلورة مخطط مضبوط للإصلاح العميق للقضاء ، ينبثق من حوار بناء وانفتاح واسع على جميع الفعاليات المؤهلة المعنية، مؤكدين، بصفتنا ضامنا لاستقلال القضاء، حرصنا على التفعيل الأمثل لهذا المخطط، من أجل بلوغ ما نتوخاه للقضاء من تحديث ونجاعة، في إطار من النزاهة والتجرد والمسؤولية.

إن ثقتنا في الهيآت والمؤسسات السياسية، يجب أن تدعمها ثقتنا في الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.

لذا، فإننا عازمون على إقامة المؤسسة الدستورية، للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، حرصا منا على ضمان مشاركتهم، ضمن إطار مؤسسي، في اقتراح السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي إيجاد هيأة دائمة للحوار الاجتماعي المسؤول.

ولدعم قرب السلطات العمومية من الحاجيات الحقيقية للمواطن، وتحسين جودة الخدمات التي تقدمها له الإدارة والمجالس المنتخبة، ندعو الحكومة لاعتماد نهج للحكامة الترابية المحلية، يقوم على النهوض باللامركزية والجهوية الموسعة، بالإسراع باللاتمركز.

ومهما كان عمق الإصلاح المؤسسي، فإن نجاحه رهين بتعزيزه بإصلاحات هيكلية أو مكملة، نرفع بها من قوتنا الاقتصادية والاجتماعية، بالنهوض بالقطاعات الأساسية للتعليم والفلاحة والطاقة والماء والنمو الصناعي.

وإذا كنا قد وضعنا التعليم في صدارة هذه القطاعات، فلأننا نعتبره المحك الحقيقي لأي إصلاح عميق.

ولكي يأخذ إصلاح منظومتنا التربوية سرعته القصوى، ووجهته الصحيحة، ندعو الحكومة لحسن تفعيل المخطط الاستعجالي.

وسنحرص على ألا يخلف المغرب موعده مع هذا الإصلاح المصيري. لذلك على الجميع أن ينخرط فيه بقوة. فظروف النجاح متوفرة، من إرادة حازمة لجلالتنا وتعبئة جماعية لكل المؤسسات والسلطات والفاعلين والتنظيمات، هدفنا الجماعي، إعادة الاعتبار وترسيخ الثقة في المدرسة العمومية المغربية، كمؤسسة للتنشئة الجماعية على قيم المواطنة الملتزمة وتكريس تكافؤ الفرص.

وفي سياق هذه الإصلاحات العميقة، نؤكد الأهمية المركزية لإصلاح وتحديث الفلاحة، فهي بالنسبة لنا، لا تشكل قطاعا اقتصاديا واعدا فحسب، وإنما هي أيضا، أحد المقومات الأساسية لهويتنا الحضارية المتميزة بارتباط المغربي بالأرض.

ومن هذا المنظور، بادرت الحكومة لبلورة توجيهاتنا لإصلاحها، من خلال استراتيجية تهدف إلى تحديثها وعقلنة تدبيرها لكسب رهان الإنتاجية والتنافسية والأمن الغذائي.

وإننا ننتظر من الحكومة تفعيل ما نريده من إطلا ق مسيرة فلاحية واعدة، بنهج مقاربة تشاورية، إدماجية وتشاركية، وبتمكينها من كافة الوسائل اللازمة للنجاح.

ولأن الفلاحة مرتبطة بالماء، فنحن مدعوون جميعاً، أكثر من أي وقت مضى، لاستشعار ما يواجه بلادنا في المستقبل من صعوبات حقيقية في مجال تدبير ثروته المائية قد تعيق بثقلها كل مشاريع التنمية البشرية والاقتصادية.

إن المغرب يواجه تحدي تدبير تزايد الطلب على الماء وتعاقب فترات الجفاف وتقلص مخزون المياه الجوفية والتبذير اللامسؤول لهذه الثروة الحيوية، لذا، فإن اعتماد استراتيجية مضبوطة لرفع هذا التحدي، بات أمراً حتمياً.

ومن ثم، فإننا سنواصل تعبئة وتخزين المياه وتوسيع دائرة الاستفادة من الماء الشروب، لا سيما داخل العالم القروي. كما ندعو إلى انبثاق وعي وطني حضاري، في اقتصاد استعمال الماء. باعتباره موردا طبيعيا ثمينا.

وكذلك الشأن بالنسبة لما يواجه المغرب من تحديات في قطاع الطاقة، إذ يتعين علينا أن نتكيف، من الآن فصاعدا، مع تحولاته العالمية العميقة، المتوجهة نحو الاستفحال.

لذلك ينبغي انتهاج سياسة تجمع بين التدبير العقلاني للمنتوجات الطاقية وبين اعتماد استراتيجية ناجعة للاقتصاد في الاستهلاك، دون المس بالإنتاجية، وانتهاج حماية وتنويع المصادر الطاقية.

ولا خيار للمغرب أمام ضرورة الرفع من قدرته على الإنتاج المحلي للطاقة، وفتح المجال أمام الاستثمارات الواعدة بتوفيرها، وتكريس الجهود لجعل الطاقات البديلة والمتجددة عمادا للسياسة الوطنية في هذا القطاع.

ونغتنم هذه المناسبة، للإشادة بكل حرارة، بالدعم الأخوي والتضامن الفعال لأخوينا الأعزين الأكرمين، خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، عاهل المملكة العربية السعودية، وصاحب السمو، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.

وقد رصدنا هبة هذين البلدين الشقيقين ومساهمة صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، للصندوق الخاص الذي أحدثناه لتنمية الطاقات لدعم البرامج الملتزمة بالنجاعة في اقتصاد الطاقة، وكذا تشجيع المستثمرين على استعمال الطاقات البديلة والمتجددة.

وبموازاة ذلك، ندعو الحكومة إلى اعتماد استراتيجية جديدة في المجال الصناعي والخدماتي وتنمية تكنولوجيات العصر، تقوم على الاستغلال الأمثل لما تتيحه العولمة من فرص تدفق الاستثمار، وتهدف إلى تقوية المقاولة المغربية وتشجيع الاستثمار الصناعي الحامل للقيمة المضافة، وفتح المجال أمام الاقتصاد الوطني، لاقتحام أنشطة صناعية جديدة ذات تقنيات مبتكرة، وأسواق واعدة، لتصدير منتوجاتها وخدماتها.

فعزمنا يوازي طموحنا، لإدماج المغرب بمقاولاته وجامعاته، في الاقتصاد العالمي للمعرفة.

شعبي العزيز، تظل أسبقية الأسبقيات، هي تحصين الوحدة الترابية للمملكة.

وقد أسفرت الجهود الدؤوبة لدبلوماسيتنا المقدامة، عن تطور إيجابي جوهري، تجسد في تأكيد الإقرار الأممي بجدية ومصداقية مبادرتنا الشجاعة للحكم الذاتي، والدعم الدولي المتنامي لأحقية المملكة في سيادتها على صحرائها، وبعدم واقعية وهم الانفصال.

وعلى هذا الأساس، والتزاما بقرار مجلس الأمن 1813، فإننا نجدد استعداد المغرب للتفاوض الجوهري، بحسن نية وعلى كافة المستويات، لإيجاد حل سياسي، توافقي ونهائي، لهذا النزاع الذي طال أمده.

وفي هذا الصدد، نؤكد الإرادة الراسخة للمغرب في مواصلة نهج اليد الممدودة، بهدف إصلاح ذات البين وترسيخ الثقة، بالحوار والمصالحة الشاملة، مع الأ طراف المعنية.

ولهذه الغاية، فإننا سنواصل اتخاذ المبادرات الصادقة، والتجاوب مع كل الإرادات الحسنة، من أجل تطبيع العلا قات المغربية- الجزائرية، وإقامة شراكة بناءة مع هذا البلد الجار الشقيق، منطلقنا الوفاء لروابط حسن الجوار بين شعبينا الشقيقين.

هدفنا الأسمى، التجاوب مع طموحات الأجيال الصاعدة. لتسخير طاقات الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، لرفع التحديات الحقيقية للتنمية والتكامل، بدل هدرها في متاهات نزاع موروث عن عهد متجاوز يعود إلى القرن الماضي.

ومهما كان اختلا ف وجهات النظر في هذا النزاع، فإنه لا يبرر استمرار إغلاق الحدود، كإجراء أحادي يعيشه الشعبان الجاران الشقيقان، كعقاب جماعي يتنافى مع أواصر أخوتهما التاريخية ومستقبلهما المشترك ومع مستلزمات الاندماج المغاربي.

وبنفس الحزم، نؤكد رفض المغرب لأي محاولة لفرض الأمر الواقع أو المس بحوزة التراب الوطني.

وفي هذا السياق، نشيد بالتجند الدائم لقواتنا المسلحة الملكية والدرك الملكي والأمن الوطني والإدارة الترابية والقوات المساعدة والوقاية المدنية، بقيادتنا، في التحام مع الشعب المغربي، لصيانة الأمن والاستقرار والنظام العام والدفاع عن حوزة الوطن.

وسنواصل المجهود التنموي الجبار، لفائدة مواطنينا المرابطين بالصحراء المغربية والعمل على توفير ظروف العودة الحرة لإخواننا الصحراويين المغتربين حيثما كانوا ورفع المعاناة عنهم وضمان الحياة الآمنة الكريمة لهم، في أحضان الوطن الموحد، وفي نطاق اتحاد مغاربي مندمج بين دوله الخمس، وفي ذلك استجابة لمنطق العصر، بتكتل بلداننا في تجمع يشكل قطبا قويا للأمن والاستقرار والتقدم والازدهار، وشريكا فاعلا لتجمعات أوسع.

وهو ما سنواصل العمل من أجله، في فضاءاتنا الجهوية والدولية، تضامنا عربيا-إسلاميا ناجعا، ووضعا متقدما مع أوروبا، واتحادا واعدا من أجل المتوسط ، واندماجا إفريقيا إيجابيا. ومع جوارنا من بلدان الساحل، وشراكة بناءة مع دول الشمال، وتعاونا مثمرا بين أقطار الجنوب.

وفي هذا السياق، نجدد التزامنا الجهوي والعالمي بمواجهة عصابات الإرهاب ونزوعات التطرف المقيت، وكذا إسهامنا الصادق في الجهود الأممية لفض النزاعات، وإخماد بؤر التوتر بالطرق السلمية، مؤكدين، بصفتنا رئيسا للجنة القدس، دعمنا لوحدة الشعب الفلسطيني الشقيق ولكفاحه السلمي من أجل إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف.

وسنظل مدافعين عن سيادة الدول ووحدتها الوطنية والترابية، في سوريا ولبنان والعراق والسودان والصومال وحيثما كانت مهددة أو مغتصبة.

شعبي العزيز، مهما تكن شمولية وأهمية أي إصلاح تنموي عميق، فإنه سيظل محدود الأ ثر إذا لم يعزز بمواصلة التأهيل السياسي الشامل والمشاركة المواطنة في إنجازه الجماعي.

وهو ما يجعلنا أكثر وثوقا، في تعميق الديمقراطية، بانتظام الاستحقاقات الانتخابية وتكريس شفافيتها ونزاهتها من قبل كل الفاعلين، وتشكيل الحكومة على أساس نتائج الاقتراع.

بيد أن النجاح في الاستحقاقات، يلقي على عاتق الفاعلين مسؤولية استخلاص الدروس من بعض الفجوات. لذا، نؤكد على ضرورة المساهمة الفعالة للهيآت السياسية الجادة في حمل مشعل الإصلاح والتحديث وانبثاق مشهد سياسي معقلن، بأحزاب قوية، متكتلة في أقطاب متجانسة، تنهض بدورها الدستوري في التأطير الناجع، والتمثيل الملتزم والتنافس الانتخابي الحر، على حسن تدبير الشأن العام.

وسأظل، شعبي العزيز، كما عهدتني، ملكا لجميع المغاربة، على اختلاف مكوناتهم، ورمزا لوحدة الأمة، ومؤتمنا على سيادة المملكة وحوزتها الترابية، وضامنا لحقوق الأفراد والجماعات.

فملكيتنا المواطنة، تاج فوق رؤوس كل المغاربة، في التزام دستوري عميق ووفاء متبادل، لعقد البيعة الوثيق وللأرواح الطاهرة لبناة صرح الدولة المغربية العريقة، وفي طليعتهم جدنا ووالدنا المنعمان، جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، خلد الله في الصالحات ذكراهما.

“ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا”. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب - 20 غشت 2009

” الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.

شعبي العزيز،

لقد كان في طليعة أهداف ثورة الملك والشعب، استرجاع استقلال المغرب، وبناء دولة المؤسسات، القوية بسيادة القانون، وعدالة القضاء.

ومواصلة للجهاد الأكبر لتحقيق هذا الهدف الأسمى، فقد ارتأينا أن نخصص خطابنا، المخلد لذكراها السادسة والخمسين، لإطلاق الإصلاح الشامل والعميق للقضاء، تعزيزا لأوراش التحديث المؤسسي والتنموي، الذي نقوده.

فمنذ تولينا أمانة قيادتك، وضعنا في صلب انشغالاتنا إصلاح القضاء، بمنظور جديد، يشكل قطيعة مع التراكمات السلبية، للمقاربات الأحادية والجزئية.

وقد أخذنا بالمنهجية التشاورية والإدماجية، التي سلكناها، بنجاعة، في القضايا الوطنية الكبرى، لبلورة إصلاح جوهري، لا يقتصر على قطاع القضاء، وإنما يمتد، بعمقه وشموليته، لنظام العدالة.

ونود الإشادة بما أبانت عنه كافة الهيآت والفعاليات المؤهلة، من تجاوب صادق، لما دعونا إليه من استشارات موسعة، وبما أثمرته من تصورات وجيهة.

وحرصا على استمرار هذا النهج البناء، فإننا نعتزم إيجاد هيأة استشارية قارة، تعددية وتمثيلية، تتيح للقضاء الانفتاح على محيطه، وتشكل إطارا مؤسسيا للتفكير وتبادل الخبرات، بشأن القضايا ذات الصلة بالعدالة. وذلك في احترام لصلاحيات المؤسسات الدستورية، واستقلال السلطة القضائية، واختصاصات السلطات العمومية.

وإننا نعتبر القضاء عمادا لما نحرص عليه من مساواة المواطنين أمام القانون، وملاذا للإنصاف، الموطد للاستقرار الاجتماعي. بل إن قوة شرعية الدولة نفسها، وحرمة مؤسساتها من قوة العدل، الذي هو أساس الملك.

لذا، قررنا إعطاء دفعة جديدة وقوية لإصلاحه. وذلك وفق خارطة طريق واضحة في مرجعياتها، طموحة في أهدافها، محددة في أسبقياتها، ومضبوطة في تفعيلها.

وفي صدارة المرجعيات، ثوابت الأمة، القائمة على كون القضاء من وظائف إمارة المؤمنين، وأن الملك هو المؤتمن على ضمان استقلال السلطة القضائية.

كما ينبغي، في هذا الصدد، الأخذ بعين الاعتبار، مختلف المقترحات والتوصيات الوطنية الوجيهة، وكذا الخلاصات البناءة لمشروع وزارة العدل، ولاستشاراتها الموسعة، فضلا عن الالتزامات الدولية للمملكة.

أما الأهداف المنشودة، فهي توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية، وكذا تأهيله ليواكب التحولات الوطنية والدولية، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين.

ولتحقيق هذه الأهداف الكبرى، ندعو الحكومة إلى بلورة مخطط متكامل ومضبوط، يجسد العمق الاستراتيجي للإصلاح، في محاور أساسية، وهي تعزيز ضمانات استقلال القضاء، وتحديث المنظومة القانونية، وتأهيل الهياكل والموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية، وترسيخ التخليق، وحسن التفعيل.

شعبي العزيز،

مهما كانت وجاهة الأهداف الاستراتيجية، التي يمتد إنجازها على المدى البعيد، فلا ينبغي أن تحجب عنا حاجة المواطنين الملحة في أن يلمسوا عن قرب، وفي الأمد المنظور، الأثر الإيجابي المباشر للإصلاح. لذا، نوجه الحكومة، وخاصة وزارة العدل، للشروع في تفعيله، في ستة مجالات، ذات أسبقية.

أولا: دعم ضمانات الاستقلالية: وذلك بإيلاء المجلس الأعلى للقضاء المكانة الجديرة به، كمؤسسة دستورية قائمة الذات، وتخويله، حصريا، الصلاحيات اللازمة، لتدبير المسار المهني للقضاة، وإعادة النظر في طريقة انتخابه، بما يكفل لعضويته الكفاءة والنزاهة، ويضمن تمثيلية نسوية مناسبة لحضور المرأة في سلك القضاء، فضلا عن عقلنة تسيير عمله.

وفي نفس الإطار، يجدر مراجعة النظام الأساسي للقضاة، في اتجاه تعزيز الاحترافية، والمسؤولية والتجرد، ودينامية الترقية المهنية، وذلك في ارتباط مع إخراج القانون الأساسي لكتاب الضبط، وإعادة النظر في الإطار القانوني المنظم لمختلف المهن القضائية.

ثانيا: تحديث المنظومة القانونية: ولاسيما ما يتعلق منها بمجال الأعمال والاستثمار، وضمان شروط المحاكمة العادلة.

وهو ما يتطلب نهج سياسة جنائية جديدة، تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائية، ومواكبتهما للتطورات، بإحداث مرصد وطني للإجرام، وذلك في تناسق مع مواصلة تأهيل المؤسسات الإصلاحية والسجنية.

وبموازاة ذلك، يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة، كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة، وإعادة النظر في قضاء القرب.

ثالثا: تأهيل الهياكل القضائية والإدارية، وذلك بنهج حكامة جديدة للمصالح المركزية لوزارة العدل وللمحاكم، تعتمد اللاتمركز، لتمكين المسؤولين القضائيين من الصلاحيات اللازمة، بما في ذلك تفعيل التفتيش الدوري والخاص، بكل حزم وتجرد، وكذا اعتماد خريطة وتنظيم قضائي عقلاني، مستجيب لمتطلبات الإصلاح.

رابعا: تأهيل الموارد البشرية، تكوينا وأداء وتقويما، مع العمل على تحسين الأوضاع المادية للقضاة وموظفي العدل، وإيلاء الاهتمام اللازم للجانب الاجتماعي، بتفعيل المؤسسة المحمدية، تجسيدا لرعايتنا الدائمة لأسرة القضاء.

خامسا: الرفع من النجاعة القضائية، للتصدي لما يعانيه المتقاضون، من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة.

وهذا ما يقتضي تبسيط وشفافية المساطر، والرفع من جودة الأحكام، والخدمات القضائية، وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتسريع وتيرة معالجة الملفات، وتنفيذ الأحكام.

سادسا: تخليق القضاء لتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ، ليساهم بدوره في تخليق الحياة العامة، بالطرق القانونية.

شعبي العزيز،

إن المحك الحقيقي لهذا الإصلاح الجوهري، لا يكمن في مجرد وضعه، وإنما في القدرة على حسن تفعيله وتدبيره، وهو ما ينبغي أن يتم على صعيدين.

فعلى المستوى المركزي، نؤكد أن مسؤولية تفعيل هذا الإصلاح، والإشراف عليه، منوطة بالحكومة، وخاصة وزارة العدل، وذلك وفق برامج محددة في أهدافها ومراحلها، ومضبوطة في وسائل التنفيذ والمتابعة والتقويم.

أما على صعيد المحاكم، فإن نجاح الإصلاح يظل رهينا بانتهاج عدم التمركز، وبتوافر الكفاءات اللازمة. ولهذه الغاية، ندعو المجلس الأعلى للقضاء، لعقد دورة خاصة، لاقتراح المسؤولين القضائيين بالمحاكم، المؤهلين للنهوض الميداني بهذا الإصلاح الحاسم.

إن الأمر يتعلق بورش شاق وطويل، يتطلب تعبئة شاملة، لا تقتصر على أسرة القضاء والعدالة، وإنما تشمل كافة المؤسسات والفعاليات، بل وكل المواطنين.

وإننا لنعتبر الإصلاح الجوهري للقضاء، حجر الزاوية في ترسيخ الديمقراطية والمواطنة لدى شبابنا وأجيالنا الحاضرة والصاعدة.

لذا، ننتظر من الجميع الانخراط القوي في كسب هذا الرهان الحيوي، بنفس روح الثورة الدائمة للملك والشعب، على درب استكمال بناء مغرب العدالة، التي نريدها شاملة، بأبعادها القضائية والمجالية والاجتماعية. أوفياء، في ذلك، للذكرى الخالدة لجدنا ووالدنا المنعمين، جلالة الملكين، محمد الخامس والحسن الثاني، ولشهداء التحرير والوحدة، أكرم الله مثواهم.

“إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” صدق الله والعظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

نص خطاب جلالة الملك بمناسبة ترؤس جلالته افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الثامنة الرباط- 9 أكتوبر 2010

” الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

نتولى رئاسة افتتاح هذه السنة التشريعية، في سياق مطبوع بإرادتنا الحازمة، لإعطاء دفعة قوية للدينامية الإصلاحية، الهادفة لاستكمال بناء النموذج التنموي المغربي المتميز; وذلك في تجاوب عميق، مع تطلعات شعبنا الوفي.

هدفنا الأسمى، توطيد تقدم بلادنا، وصيانة وحدتها، وضمان المزيد من مقومات العيش الكريم لمواطنينا، بمنجزات تنموية؛ لا نفرق بين مشاريعها الكبرى والمتوسطة والصغرى; اعتبارا لخدمة كل منها للوطن والمواطنين، ولاسيما الشباب والفئات، والجهات المعوزة.

منهجنا في ذلك، سياسة القرب والمشاركة، القائمة على تعبئة كل الطاقات، وإطلاق شتى المبادرات، والتفعيل الأمثل لكل المجالس المنتخبة، التي يتبوأ فيها البرلمان مكانة الصدارة.

بيد أن هذه المكانة النيابية المتميزة، تساءل الجميع: إلى أي مدى ينهض البرلمان بدوره كاملا، كرافعة ديمقراطية لنموذجنا التنموي؟

وإذا كان من الإنصاف تقدير ما أسفرت عنه جهودكم، من حصيلة تشريعية إيجابية; فإن طموحنا، وطموح شعبنا العزيز، يظل هو الارتقاء بمجلسي النواب والمستشارين، مؤسسة وأعضاء، ليكونا في صلب هذه الدينامية الإصلاحية.

+ فعلى مستوى المؤسسة البرلمانية، سبق في أول خطاب لنا أمامها، التأكيد على أن تحسين أداء البرلمان، يقوم على اعتبار مجلسيه برلمانا واحدا بغرفتين، وليس برلمانين منفصلين.

وهو ما يتطلب من الأحزاب والفرق النيابية، الأخذ بحكامة برلمانية جيدة، عمادها التشبع بثقافة سياسية جديدة، وممارسة نيابية ناجعة، قائمة على تعزيز حضور الأعضاء، وجودة أعمالهم، ومستوى إسهامهم، في معالجة الانشغالات الحقيقية للشعب.

ولهذه الغاية، نجدد التأكيد على وجوب عقلنة الأداء النيابي، بالانطلاق من تجانس النظامين الداخليين للمجلسين، والنهوض بدورهما، في انسجام وتكامل، كمؤسسة واحدة.

هدفها المشترك، جودة القوانين، والمراقبة الفعالة، والنقاش البناء، للقضايا الوطنية؛ وخصوصا منها الحكامة الترابية، وتحصين وتعزيز الآليات الديمقراطية والتنموية.

+ أما على مستوى النائب البرلماني، فإن الانخراط في المسار الإصلاحي، يقتضي منكم ألا تنسوا أنكم تمثلون، داخل قبة البرلمان، الإرادة الشعبية، قبل كل شيء.

ومن ثم، فإن عضوية البرلمان ليست امتيازا شخصيا، بقدر ما هي أمانة; تقتضي الانكباب الجاد، بكل مسؤولية والتزام، على إيجاد حلول واقعية، للقضايا الملحة للشعب.

إنها بالأسبقية قضايا التعليم النافع، والسكن اللائق، والتغطية الصحية، والبيئة السليمة، وتحفيز الاستثمار، المدر لفرص الشغل، والتنمية البشرية والمستدامة.

ولهذه الغاية، يتعين ترسيخ علاقات تعاون إيجابي، بين الجهازين التشريعي والتنفيذي، وبين أغلبية متضامنة، ومعارضة بناءة، في نطاق الاحترام المتبادل، والالتزام المشترك بأحكام الدستور، وبالقيم الديمقراطية، وحرمة المؤسسات، والمصالح العليا للوطن.

معشر البرلمانيين المحترمين،

تجسيدا لعزمنا الراسخ على توطيد سلطة الدولة، على دعائم سيادة القانون، وسمو القضاء; الفعال؛ فإننا نؤكد على أن المفهوم الجديد للسلطة، الذي أطلقناه، في خطابنا المؤسس له، بالدار البيضاء، في أكتوبر 1999، يظل ساري المفعول.

فهو ليس إجراء ظرفيا لمرحلة عابرة، أو مقولة للاستهلاك، وإنما هو مذهب في الحكم، مطبوع بالتفعيل المستمر، والالتزام الدائم بروحه ومنطوقه.

كما أنه ليس تصورا جزئيا، يقتصر على الإدارة الترابية؛ وإنما هو مفهوم شامل وملزم لكل سلطات الدولة وأجهزتها، تنفيذية كانت أو نيابية أو قضائية.

لذلك، سيظل خديمك الأول، شعبي العزيز، ساهرا على رعايته، حريصا على حسن تفعيله، من طرف كل ذي سلطة، بالآليات القانونية للمتابعة والمحاسبة والجزاء؛ وذلك في ظل القضاء النزيه.

وهنا نؤكد أن السلطة القضائية، بقدر ما هي مستقلة عن الجهازين؛ التشريعي والتنفيذي، فإنها جزء لا يتجزأ من سلطة الدولة. فالقضاء مؤتمن على سمو دستور المملكة، وسيادة قوانينها، وحماية حقوق والتزامات المواطنة.

وفي هذا الصدد، نلح على أن حسن تنفيذ مخططنا، للإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، لا ينحصر فقط في عمل الحكومة والبرلمان؛ وإنما هو رهين، أساسا، بالأداء المسؤول للقضاة.

وعلى غرار مبادرتنا للمفهوم الجديد للسلطة، الهادف لحسن تدبير الشأن العام، فقد قررنا أن نؤسس لمفهوم جديد لإصلاح العدالة، ألا وهو “القضاء في خدمة المواطن”.

وإننا نتوخى من جعل “القضاء; في خدمة المواطن”، قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين، وببساطة مساطرها وسرعتها، ونزاهة أحكامها، وحداثة هياكلها، وكفاءة وتجرد قضاتها، وتحفيزها للتنمية، والتزامها بسيادة القانون، في إحقاق الحقوق ورفع المظالم.

السيدات والسادة أعضاء البرلمان،

في ظرفية مشحونة بتداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وسياق وطني مطبوع بإصلاحات عميقة؛ فإننا ننتظر منكم الانخراط القوي في بلورتها، بتشريعات متقدمة، ومراقبة ناجعة.

+ فعلى مستوى المرحلة الراهنة، يظل مشروع القانون المالي لحظة قوية في تكريس العمل البرلماني الفعال. فالأمر لا يتعلق بالمناقشة والتصويت، على مجرد موازنة حسابات وأرقام؛ بل بالتجسيد الملموس للاختيارات والبرامج التنموية الكبرى للبلاد.

لذا، يجدر بكم التحلي بروح المسؤولية، والتعاون المثمر مع الحكومة، لإيجاد حلول ناجعة، للمعادلة الصعبة، لضرورة الحفاظ على التوازنات الأساسية ودينامية التنمية، في ظل إكراهات محدودية الإمكانات.

+ أما على المستوى الاستراتيجي، فإن الدفاع عن مغربية صحرائنا، الذي يظل قضيتنا المقدسة، يتطلب منكم جميعا، التحرك الفعال والموصول، في كافة الجبهات والمحافل، المحلية والجهوية والدولية، لإحباط المناورات اليائسة لخصوم وحدتنا الترابية.

كما تقتضي منكم إذكاء التعبئة الشعبية الشاملة، واتخاذ المبادرات البناءة، لكسب المزيد من الدعم لمقترحنا المقدام للحكم الذاتي; وذلك في إطار دبلوماسية برلمانية وحزبية، متناسقة ومتكاملة مع العمل الناجع للدبلوماسية الحكومية.

وحرصا منا على إغناء مساهمة البرلمان في المجهود التنموي; فإننا ننتظر منكم، الإفادة المثلى من الآراء الاستشارية الوجيهة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي سيتم تنصيبه، بعون الله، إثر استكمال تركيبته.

كما ندعوكم لإعطاء الأسبقية لإعداد واعتماد القانون – الإطار للبيئة والتنمية المستدامة; باعتبارهما عماد ضمان حاضر ومستقبل تقدم بلادنا.

حضرات السيدات والسادة البرلمانيين،

إن عليكم استشعار أن حصيلة عملكم الفردية والحزبية، سيتم تقييمها، في نهاية انتدابكم، على أساس ما تم تحقيقه من إنجازات تنموية ملموسة.

وذلكم هو السبيل القويم، لاستعادة العمل السياسي والبرلماني لنبله، وللأحزاب اعتبارها، للنهوض بدورها الدستوري، في الإسهام في حسن تأطير وتمثيل المواطنين، وإعداد النخب المؤهلة لتدبير الشأن العام، وكذا التربية على المواطنة المتشبعة، بالغيرة على مقدسات الأمة، والالتزام بقضاياها ومصالحها العليا.

“إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا”. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته “.

نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة حول مشروع الدستور الجديد - الرباط 9 مارس 2011

“الحمد لله وحده،  والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.

شعبي العزيز،

أخاطبك اليوم، بشأن الشروع في المرحلة الموالية، من مسار الجهوية المتقدمة، بما تنطوي عليه من تطوير لنموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز، وما تقتضيه من مراجعة دستورية عميقة،  نعتبرها عمادا لما نعتزم إطلاقه من إصلاحات جديدة شاملة، في تجاوب دائم مع كل مكونات الأمة.

ونود في البداية، الإشادة بالمضامين الوجيهة لتقرير اللجنة الاستشارية للجهوية،  التي كلفناها،  منذ ثالث يناير من السنة الماضية،  بإعداد تصور عام لنموذج مغربي للجهوية المتقدمة؛ منوهين بالعمل الجاد، الذي قامت به، رئاسة وأعضاء، وبالمساهمة البناءة،  للهيآت الحزبية والنقابية والجمعوية،  في هذا الورش المؤسس.

وتفعيلا لما أعلنا عنه في خطاب 20 غشت 2010،  بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب،  ندعو الجميع للانخراط في مواصلة إنضاج ما جاء في هذا التصور العام،  في نطاق نقاش وطني واسع وبناء.

لقد اقترحت اللجنة،  في نطاق التدرج،  إمكانية إقامة الجهوية المتقدمة بقانون،  في الإطار المؤسسي الحالي، وذلك في أفق إنضاج ظروف دسترتها.

بيد أننا نعتبر أن المغرب، بما حققه من تطور ديمقراطي،  مؤهل للشروع في تكريسها دستوريا.

وقد ارتأينا الأخذ بهذا الخيار المقدام،  حرصا على انبثاق الجهوية الموسعة،  من الإرادة الشعبية المباشرة،  المعبر عنها باستفتاء دستوري.

لقد قررنا، في نطاق الإصلاح المؤسسي الشامل، الذي عملنا على توفير مقوماته،  منذ اعتلائنا العرش، أن يقوم التكريس الدستوري للجهوية، على توجهات أساسية، من بينها:

+ تخويل الجهة المكانة الجديرة بها في الدستور، ضمن الجماعات الترابية،  وذلك في نطاق وحدة الدولة والوطن والتراب، ومتطلبات التوازن، والتضامن الوطني مع الجهات، وفيما بينها؛

+ التنصيص على انتخاب المجالس الجهوية بالاقتراع العام المباشر، وعلى التدبير الديمقراطي لشؤونها.

+ تخويل رؤساء المجالس الجهوية سلطة تنفيذ مقرراتها،  بدل العمال والولاة؛

+ تعزيز مشاركة المرأة في تدبير الشأن الجهوي خاصة، وفي الحقوق السياسية عامة؛ وذلك بالتنصيص القانوني على تيسير ولوجها للمهام الانتخابية؛

+ إعادة النظر في تركيبة وصلاحيات مجلس المستشارين، في اتجاه تكريس تمثيليته الترابية للجهات.

وفي نطاق عقلنة عمل المؤسسات، فإن تمثيلية الهيئات النقابية والمهنية، تظل مكفولة بعدة مؤسسات، وعلى رأسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ويظل هدفنا الأسمى إرساء دعائم جهوية مغربية، بكافة مناطق المملكة، وفي صدارتها أقاليم الصحراء المغربية. جهوية قائمة على حكامة جيدة، تكفل توزيعا منصفا وجديدا، ليس فقط للاختصاصات، وإنما أيضا للإمكانات بين المركز والجهات.

ذلك أننا لا نريد جهوية بسرعتين: جهات محظوظة، تتوفر على الموارد الكافية لتقدمها، وجهات محتاجة، تفتقر لشروط التنمية.

شعبي العزيز،

حرصا منا على إعطاء الجهوية كل مقومات النجاعة ؛ فقد ارتأينا إدراجها في إطار إصلاح دستوري شامل، يهدف إلى تحديث وتأهيل هياكل الدولة.

أجل، لقد حقق المغرب مكاسب وطنية كبرى، بفضل ما أقدمنا عليه من إرساء مفهوم متجدد للسلطة، ومن إصلاحات وأوراش سياسية وتنموية عميقة، ومصالحات تاريخية رائدة، رسخنا من خلالها ممارسة سياسية ومؤسسية، صارت متقدمة، بالنسبة لما يتيحه الإطار الدستوري الحالي.

كما أن إدراكنا العميق لجسامة التحديات، ولمشروعية التطلعات، ولضرورة تحصين المكتسبات، وتقويم الاختلالات، لا يعادله إلا التزامنا الراسخ بإعطاء دفعة قوية لدينامية الإصلاح العميق، جوهرها منظومة دستورية ديمقراطية.

ولنا في قدسية ثوابتنا، التي هي محط إجماع وطني، وهي الإسلام كدين للدولة، الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي، الضمان القوي، والأساس المتين، لتوافق تاريخي، يشكل ميثاقا جديدا بين العرش والشعب.

ومن هذا المنطلق المرجعي الثابت، قررنا إجراء تعديل دستوري شامل، يستند على سبعة مرتكزات أساسية :

+ أولا: التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة؛

+ ثانيا: ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب؛

+ ثالثا: الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه؛

+ رابعا: توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال :

برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية.

حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب؛

تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها،

تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي،

دسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته،

+ خامسا: تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور الأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية، وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية، والمجتمع المدني؛

+ سادسا: تقوية آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة،

+ وسابعا: دسترة هيآت الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات.

شعبي العزيز،

عملا بما رسخناه من انتهاج المقاربة التشاركية، في كل الإصلاحات الكبرى، فقد قررنا تكوين لجنة خاصة لمراجعة الدستور، راعينا في اختيار أعضائها، الكفاءة والتجرد والنزاهة.

وقد أسندنا رئاستها للسيد عبد اللطيف المنوني، لما هو مشهود له به من حكمة، ودراية علمية عالية بالقانون الدستوري، وخبرة حقوقية واسعة؛ داعين مكونات اللجنة إلى الإصغاء والتشاور مع المنظمات الحزبية والنقابية، ومع الفعاليات الشبابية، والجمعوية والفكرية والعلمية المؤهلة، وتلقي تصوراتها في هذا الشأن؛ على أن ترفع إلى نظرنا السامي نتائج أعمالها، في غضون شهر يونيو المقبل.

وإننا نتوخى من هذه التوجهات العامة، وضع إطار مرجعي، لعمل اللجنة. بيد أن ذلك لا يعفيها من الاجتهاد الخلاق، لاقتراح منظومة دستورية متقدمة لمغرب الحاضر والمستقبل.

وإلى أن يتم عرض مشروع الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي، وإقراره ودخوله حيز التنفيذ، وإقامة المؤسسات المنبثقة عنه، فإن المؤسسات القائمة، ستواصل ممارسة مهامها، في إطار مقتضيات الدستور الحالي.

وفي هذا السياق، ندعو إلى التعبئة الجماعية، لإنجاح هذا الورش الدستوري الكبير، بثقة وإقدام، وإرادة والتزام ؛ وجعل المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار.

كما نعرب عن اعتزازنا بما يتحلى به شعبنا الوفي، بكل فئاته وجهاته، وأحزابه ونقاباته الجادة، وشبابه الطموح، من روح وطنية عالية؛ متطلعين إلى أن يشمل النقاش الوطني الموسع، القضايا المصيرية للوطن والمواطنين.

وإن إطلاقنا اليوم، لورش الإصلاح الدستوري، يعد خطوة أساسية، في مسار ترسيخ نموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز، سنعمل على تعزيزها بمواصلة النهوض بالإصلاح الشامل، السياسي والاقتصادي والتنموي، والاجتماعي والثقافي؛ في حرص على قيام كل المؤسسات والهيآت بالدور المنوط بها، على الوجه الأكمل، والتزام بالحكامة الجيدة، وبترسيخ العدالة الاجتماعية، وتعزيز مقومات المواطنة الكريمة.

“إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب”. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

نص الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الجديدة للمجلس الأعلى للقضاء الرباط - فاتح مارس 2012

“الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه

حضرات السادة..

ما فتئنا منذ تقلدنا الامانة العظمى لقيادة شعبنا والتي يعتبر القضاء من صميم مسؤولياتها نوجه حكومتنا والبرلمان الى الاهمية القصوى التي نوليها لإصلاح القضاء وتحديثه وتأهيله للاسهام الفعال في المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي نسهر على تحقيقه.

وقد أبينا اليوم ومن خلال رئاستنا لافتتاح دورة المجلس الاعلى للقضاء الا أن نتوجه الى هذا المجلس  ومن خلاله الى كافة أسرة العدل بخطاب مباشر يستهدف ابراز مدى المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق القضاة انفسهم في اصلاح الجهاز المؤتمن على العدل الذي يتوقف عليه كسبنا لرهان الديمقراطية والتنمية.

واننا لنعتبر أن قضاء واعيا كل الوعي بحتمية هذا الرهان ومؤهلا لاستيعاب التحولات التي يعرفها المغرب لهو القادر وحده على رفع هذا التحدي مواصلا ومعززا رسالته التقليدية المتمثلة في السهر على ضمان النظام العام وتأمين السلم الاجتماعي مستجيبا في نفس الوقت لمتطلبات جديدة تتمثل في ضرورة حرص القضاء على التفعيل والتجسيد الملموسين لمفهوم ومضمون بناء الديمقراطية ودولة الحق بضمان سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه في جميع الظروف والاحوال.

كما يجب على القضاء ان يوفر الرؤية التوقعية الحقوقية المطمئنة والموضحة للضمانات التي يكفلها القانون معززا بذلك مناخ الثقة التي تعد حجر الزاوية للاقتصاد الليبرالي مساهما في النهوض بالاستثمار والنماء الاقتصادي.

لذا حرصنا على اعادة الاعتبار للقضاء وتأهيله وتطهيره من كل النقائص والشوائب المشينة محددين بكل حزم ووضوح سبيل الاصلاح الذي لا مناص منه. وقد تحقق بالفعل تقدم لا جدال فيه حيث تم ايقاف مسلسل التدهور والمضي قدما في عملية اعادة البناء وعصرنة العدالة مما مكن من تعزيز الاستقلال الفعلي للقضاء وتقوية سلطته في تجسيد المساواة أمام القانون والاسراع في تنفيذ الاحكام.

وفيما اخذت المحاكم الادارية والتجارية تعطي ثمارها في مجال ترسيخ سيادة القانون سواء في علاقات الادارة بالمواطن او في ميدان الاعمال فقد تحققت على المستوى التشريعي اصلاحات هامة في انتظار أخرى هي في طريق الانجاز من شأنها استكمال بناء صرح العدالة وتعزيز قدرات المحاكم للتغلب على البطء باعتماد القضاء الفردي فضلا عن اضفاء البعد الانساني على قانون السجون وعصرنة القضاء الجنائي واعادة تأهيل المهن القضائية وتحسين تكوين القضاة وكافة الاعوان القضائيين وكذا ظروف عملهم في العديد من المحاكم

وبالرغم مما قطعناه من خطوات فان اصلاح القضاء لايزال بعيدا عن الهدف الذي نتوخاه له ودون الطموحات المشروعة للمتقاضين وللمجتمع. ولذا فإننا مصممون على أن يأخذ تسريع النهج الاصلاحي وتيرته القصوى. فقد دقت ساعة الحقيقة معلنة حلول وقت التعبئة الكاملة والقوية للقضاة ولكل الفاعلين في مجال العدالة للمضي قدما بإصلاح القضاء نحو وجهته الصحيحة وانتهاء زمن العرقلة والتخاذل والتردد والانتظارية.

وفي هذا الصدد يجب على المجلس الاعلى للقضاء أن يعزز المكتسبات وينخرط بكل حزم ووضوح في هذا الورش الاصلاحي الكبير مضطلعا بمهامه الدستورية كاملة في السهر على ضوابط وأخلاقيات القضاء بالمعاقبة التأديبية الحازمة والصارمة لكل الذين أثبتوا عدم أهليتهم لتحمل ما طوقوا به من مسؤوليات بسبب تفريطهم وتجاوزاتهم أو الذين أساؤوا لسمعة القضاء بسلوكهم وتصرفاتهم والذين ينسفون في لحظة واحدة بانحرافاتهم الشائنة ما تحقق من منجزات خلال سنوات من الكد والجهد.

كما ينبغي للمجلس أن يعمل بنفس الحزم والعزم على النهوض  بدوره الاساسي في تعزيز الضمانات التي يكفلها الدستور للقضاة معتمدا المساواة والتجرد في تدبير وضعيتهم المهنية بناء على المعايير الموضوعية المضمنة في نظامه الداخلي الذي حظى بمصادقتنا السامية حريصا على مكافأة خصال النزاهة والاستقامة والاستحقاق ونكران الذات والجدية والاجتهاد والشجاعة.

وإننا إذ ندعو المجلس  لمضاعفة جهوده لتوطيد استقلال القضاء وتقويته فإننا نؤكد بأن هذا الاستقلال لا يعد امتيازا مخولا للقاضي ليعمل بهواه بمنأى عن كل محاسبة بل إن مبدأ استقلال القضاء يعد بالأحرى قاعدة ديمقراطية لكفالة حسن سير العدالة وضمانة دستورية لحماية حقوق المتقاضين وحقا للمواطنين في الاحتماء بقضاء مستقل ومحايد.

ولأننا حريصون على عدم تسخير هذا المبدأ كمطية لأغراض أخرى فإن على المجلس أن ينأى بنفسه وبصفة نهائية عن كل النزعات الفئوية المهنية والانتخابوية الضيقة والممارسات المنحازة حتى يحقق لذاته الاستقلال اللازم ويدرك بنفسه ويرسخ الوعي لدى الغير بأن الاستقلال هو الشرط الملازم للمسؤولية جاعلا مصلحة الامة فوق كل اعتبار.

حضرات السادة،

إن التعبئة الشاملة التي يتطلبها الورش الكبير لإصلاح القضاء تستلزم المشاركة الفعالة والواسعة للقضاة فيه. وهنا يبرز الدور المنوط بالودادية الحسنية للقضاة التي ننتظر منها وفي نطاق مهامها وأهدافها أن تواكب هذا الاصلاح وتدعمه بكل فعالية متيحة بذلك لجميع القضاة الاسهام في تجديد الصرح المشترك للعدالة وإضافة قيمة جديدة لبرامج التعاون الدولي والانفتاح على العالم القضائي والتكوين المستمر وتحديث القضاء.

ولكي يتأتى للودادية ذلك  ينبغي لها أن تستيقظ من سباتها العميق وأن تكف عن الحسابات والصراعات المتجاوزة وتقوم بمراجعة وتحيين نظامها الاساسي بما يكفل لها استيعاب التطور الفكري والتحولات التي يعرفها المشهد القضائي وكذا تجديد هيئاتها المسيرة بما يضمن لها تعبئة طاقات جديدة وإناطة المسؤولية بها.

وبذلكم تسترجع الودادية إشعاعها وتحمل من جديد مشعل استقلال القضاء والدفاع عن حقوق القضاة وتحدد النهج القويم لعملها ولمساهمتها في إصلاح القضاء الذي يوجد اليوم في قلب عملية تغيير المجتمع وتحديثه ودمقرطته وبناء دولة الحق والقانون والنماء والتقدم أي في صميم اختيارات استراتيجية لا رجعة فيها وتحديات مصيرية يجب على المغرب أن يرفعها وهو ما لن يتم إلا بالمساهمة الحاسمة والفعالة للقضاء.

وإننا لنهيب بكل  القضاة الحريصين كل الحرص  على النهوض بمسؤوليتهم التاريخية والمحافظة على شرف وكرامة الامانة الملقاة على عاتقهم أن يعملوا على مصالحة المغاربة مع جهازهم القضائي واستعادة ثقتهم في شموخ وعظمة عدالة مستقلة نزيهة كفأة وقوية جديرة بما يرمز إليه اسمها من توقير واحترام.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

نص الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة الملك خلال حفل تنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة - الدار البيضاء 8 مايو 2012

” الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول لله وآله وصحبه،

حضرات السيدات والسادة،

يطيب لنا أن نتولى تنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة.

وقد أبينا إلا أن نضفي رعايتنا السامية على هذا الحوار اعتبارا للعناية الفائقة التي ما فتئنا نوليها لهذا الإصلاح الجوهري الذي جعلناه في صدارة الأوراش الإصلاحية الكبرى التي نقودها٬ إيمانا منا بأن العدل هو قوام دولة الحق والمؤسسات وسيادة القانون التي نحن لها ضامنون وتحفيز الاستثمار والتنمية التي نحن على تحقيقها عاملون.

وقد سبق لنا في خطاب العرش لسنة 2008 أن دعونا لحوار واسع لبلورة مخطط مضبوط للإصلاح العميق للقضاء.

كما حددنا المحاور الأساسية لهذا الإصلاح في خطابنا الموجه للأمة في 20 غشت 2009.

وقد حرصنا على تتويج هذا المسار الإصلاحي بمقتضيات الدستور الجديد للمملكة التي تنص على ضمان الملك لاستقلال القضاء وتكرس القضاء كسلطة مستقلة قائمة الذات عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية برئاستنا وبالنص على حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة ودور القضاء في حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم.

تلكم هي المرجعيات الأساسية لهذا الحوار الوطني الذي نريده مناسبة لتأكيد تشبث المغاربة بالنموذج الديمقراطي التنموي المغربي المتميز.

حضرات السيدات والسادة،

من منطلق نجاعة المقاربة التشاركية والإدماجية التي اعتمدناها في مختلف القضايا والإصلاحات الكبرى، فقد تم الحرص على أن تشمل التركيبة التعددية لهذه الهيئة العليا جميع المؤسسات الدستورية والقطاعات الحكومية والقضائية وتمثيلية وازنة للمجتمع المدني ومختلف الفعاليات المؤهلة المعنية بإصلاح منظومة العدالة.

ونود في هذا الصدد، أن نتوجه بعبارات التقدير لأعضاء هذه الهيئة الموقرة، منوهين بغيرتهم الوطنية وبكفاءتهم وخبرتهم ونزاهتهم وتنوع مشاربهم، داعين إياهم إلى الانصهار في بوتقة عمل وطني بناء.

وستتولى هذه الهيئة الاستشارية كإطار تعددي وتمثيلي يتيح انفتاح القضاء على محيطه الداخلي والخارجي، مهمة الإشراف على هذا الحوار الوطني ورفع مشاريع توصيات بشأن إصلاح منظومة العدالة لنظرنا السامي.

وإننا ننتظر منكم، لما هو معهود فيكم من روح المسؤولية الوطنية العالية انتهاج الاجتهاد الخلاق والإصغاء والانفتاح للتفعيل الأكمل لمشروع إصلاح العدالة.

كما ندعو جميع الفاعلين للتعبئة والانخراط في هذا الحوار الوطني الذي سنتعهده بالرعاية والمتابعة غايتنا الجماعية بلورة ميثاق وطني واضح في أهدافه ومحدد في أسبقياته وبرامجه ووسائل تمويله ومضبوط في آليات تفعيله وتقويمه.

وستجدون في جلالتنا، كضامن لاستقلال القضاء وساهر على احترام الدستور وحقوق وحريات الأفراد والجماعات خير سند لكم في النهوض بهذه المسؤولية الوطنية الجسيمة والنبيلة.

أعانكم الله وسدد خطاكم وكلل أعمالكم بالتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة عيد العرش المجيد - الأربعاء 30 يوليوز 2012

” الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.شعبي العزيز،

نخلد اليوم الذكرى الثالثة عشرة لاعتلائنا العرش، باعتبارها مناسبة متجددة تجسد عمق ما يربطك بالعرش من أواصر الولاء الدائم والبيعة الوثقى والتلاحم العميق.

كما أنها مناسبة مواتية لتأكيد الخيارات الأساسية لبلادنا التي كرسها الدستور الجديد للمملكة، الذي أجمعت الأمة على اعتباره ميثاقا متميزا، بما يفتحه أمامك – شعبي العزيز- من آفاق المشاركة الفعالة. وهو ما يحملنا جميعا مسؤولية العمل المشترك لاستكمال نموذجنا المتميز في توطيد صرح الدولة المغربية العصرية، المتشبعة بقيم الوحدة والتقدم والإنصاف والتضامن الاجتماعي، في وفاء لهويتنا العريقة.

لقد دخلت بلادنا مرحلة جديدة، لم تكن محض مصادفة، ولا من صنع ظروف طارئة، بقدر ما تعد ثمرة سياسة متبصرة واستراتيجية متدرجة، انتهجناها منذ اعتلائنا العرش، بإرادة سيادية كاملة، في تجاوب تام مع تطلعاتك المشروعة. فكان في مقدمة انشغالاتنا ترسيخ تلاحم المجتمع المغربي بتحقيق مصالحة المغاربة مع ذاتهم وتاريخهم، وذلك من خلال عمل هيأة الإنصاف والمصالحة، وكذا رد الاعتبار للأمازيغية كمكون من مكونات الهوية، ورصيد مشترك لجميع المغاربة، وتوسيع فضاء الحريات وحقوق الإنسان، مع تخويل المرأة وضعا، في إطار مدونة الأسرة،  يحفظ لها كرامتها وينصفها ويمكنها من سبل المشاركة في الحياة العامة.

كما أقدمنا على إصلاحات اقتصادية عميقة لتعزيز البنيات التحتية للمدن المغربية وتحسين تهيئتها وفك العزلة عن العالم القروي، من خلال تزويده بالتجهيزات اللازمة، عاملين على توفير المناخ الملائم لتحفيز الاستثمار، علاوة على نهج سياسة للتأهيل الاجتماعي.

وفي هذا السياق، عززنا أوراش العمل الاجتماعي والتنموي بإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ سنة 2005، وفق رؤية شمولية لمحاربة الإقصاء والتهميش والفقر.

وبصفتنا أميرا للمؤمنين، ما فتئنا نعمل، بمقتضى البيعة المقدسة التي نتولى أمانتها العظمى، على أن تظل المملكة المغربية نموذجا في الالتزام بالإسلام السني الوسطي السمح، الذي لا مكان فيه للتطرف والتعصب والغلو والانغلاق.

كما ارتقينا بالمجلس العلمي الأعلى إلى مؤسسة دستورية، قائمة بالمهام الموكولة إليها في الفتوى وتقديم المشورة لجلالتنا في كل ما يهم الشأن الديني.

وبانخراطنا الجاد في هذه الإصلاحات تمكنا من فتح ورش المراجعة الدستورية،  وفق مقاربة تشاركية. بيد أن إطلاق هذا المسار الطموح لم يكن هدفا في حد ذاته، وإنما هو سبيل لاستكمال دولة الحق والمؤسسات وتحقيق التنمية الشاملة. وذلك شريطة أن يتحمل الجميع نصيبه من الالتزام المسؤول، حكومة وممثلين للأمة ومنتخبين محليين وأحزابا سياسية ونقابات وفاعلين اقتصاديين ومجتمعا مدنيا، وفاء للميثاق الذي أجمعت عليه الأمة باعتمادها للدستور الجديد.

وفي هذا الصدد، سأظل – شعبي العزيز- على ما تعهده في خديمك الأول من اهتمام بانشغالات المواطنين، حريصا على الوقوف الميداني على ظروف عيشهم والتجاوب مع انتظاراتهم بجميع فئاتهم. وفي نفس السياق، ما فتئنا نصغي لمشاعر جاليتنا المقيمة بالخارج، مولين اهتماما خاصا لكافة أفرادها، مشيدين بتعلقهم القوي ببلدهم ووفائهم لهويتهم٬ وبدورهم البناء في تنمية وطنهم الأم. وفي ظل الظروف الصعبة التي تجتازها بعض بلدان إقامتهم، لا يسعنا إلا أن نعبر عن مساندتنا وتضامننا مع المتضررين منهم.

شعبي العزيز،

لما كان تفعيل اختياراتنا على أرض الواقع يقتضي تحديد الأسبقيات وترتيبها، وفق مقاربة مضبوطة المراحل والآماد، فقد جعلنا من هذا النهج خارطة طريق لتفعيل ما نقدم عليه من إصلاحات. وانطلاقا من كون دولة الحق والقانون هي مصدر كل تقدم، فقد جعلنا العدالة في مقدمة أوراشنا الإصلاحية. وحيث إن الدستور الجديد يضع استقلال القضاء في صلب منظومته، فإن الشروط باتت متوافرة لإنجاح هذا الورش الكبير، متطلعين إلى أن تعمل الهيأة العليا لإصلاح العدالة، وفق مقاربة تشاركية منفتحة، لإعداد توصيات عملية ملموسة، في أقرب الآجال. وتشكل الجهوية المتقدمة التي أطلقناها، وكرسها الدستور الجديد، ورشا كبيرا يتعين تدبيره بكامل التأني والتبصر، ليكون تفعيلها كفيلا بإحداث تغيير جوهري وتدريجي، في تنظيم هياكل الدولة، وفي علاقات المركز بالجماعات الترابية. ولكسب رهانات هذا المسار، يتعين فسح المجال لتجديد النخب٬ والمشاركة الواسعة والمكثفة للنساء والشباب، وفتح الآفاق أمام المواطنات والمواطنين المؤهلين، المتحلين بروح المسؤولية والنزاهة. كما نهيب بالحكومة الشروع في إصلاح الإدارة العمومية، لتمكينها من مواكبة متطلبات هذه الرؤية الترابية الجديدة. وهو ما يطرح مسألة اللاتمركز، الذي ما فتئنا ندعو إليه منذ أزيد من عشر سنوات. ومن هذا المنطلق٬ فالحكومة مطالبة باعتماد ميثاق للاتمركز، بما يمكن الإدارة من إعادة انتشار مرافقها، ومساعدتها على التجاوب الأمثل مع حاجيات المصالح اللامتمركزة٬ وجعلها تستشعر المسؤولية الحقيقية، في وضع المشاريع وحسن تسييرها. وذلك بموازاة مع الانكباب على الورش الكبير للإصلاحات اللازمة، لتفعيل التنظيم الترابي الجديد٬ في إطار حكامة جيدة، تضع التنمية البشرية في صلب اهتمامها. إذ لا سبيل الى رفع التحديات التي تواجه هذه الحكامة إلا بتحقيق تنمية بشرية عادلة ومنصفة، كفيلة بالتصدي للعجز الحاصل في المجال القروي، والخصاص الذي يعيق النمو في الوسط الحضري.

وإذا كان القضاء والجهوية والحكامة الترابية، في صدارة أسبقياتنا، فإنه ينبغي، إضافة إلى ذلك، إيلاء عناية خاصة لتفعيل المؤسسات المنصوص عليها في الدستور الجديد، ذات الصلة بالحكامة الجيدة، ومحاربة الرشوة، وبالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بصفة عامة.

شعبي العزيز،

إن الركود الاقتصادي الذي يعيشه العالم منذ 2008، وما نتج عنه من تغيرات على صعيد العلاقات الدولية، في إطار العولمة ٬وكذا التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المحيط الاقليمي، يحثنا على مواصلة الإصلاحات، ويعزز اقتناعنا بصواب الخيارات السوسيو – اقتصادية، التي أخذنا بها منذ أمد بعيد. حيث مكنتنا من إطلاق أوراش كبرى، كفيلة بدعم البنيات التحتية، والتجهيزات الأساسية التي تتطلبها بلادنا، وذلك في إطار الاستراتيجيات القطاعية، التي تمت بلورتها وفق معايير ناجعة، لبلوغ الأهداف المتوخاة.

وفي هذا الصدد٬ انصبت جهودنا على النهوض بمختلف المجالات الصناعية، والتكنولوجيات الحديثة، من خلال تهيئة أقطاب وفضاءات اقتصادية مندمجة، كفيلة بتوسيع آفاق الاستثمار، وتحسين القدرات التنافسية لمقاولاتنا.

واعتبارا لما نوليه من أهمية بالغة للقطاع الفلاحي، فإنه يتعين مضاعفة العناية بمخطط المغرب الأخضر، الذي يعد عاملا أساسيا للتنمية الفلاحية. وهو ما يتطلب تكثيف أنشطته، بقصد توسيع وتنويع المنتوج المغربي، والرفع من مردوديته، وتقوية قدرات الفلاحين الصغار، في إطار برامج تضامنية، تساهم في تحسين الظروف المعيشية لساكنة العالم القروي، لاسيما في الظرفية المناخية الصعبة التي عرفها المغرب خلال السنة الأخيرة.

لذا، نجدد دعوتنا للحكومة من أجل توفير شروط التكامل بين مختلف الاستراتيجيات القطاعية، واعتماد آليات لليقظة والمتابعة والتقويم، تساعد على تحقيق التناسق فيما بينها، وقياس نجاعتها، وحسن توظيف الاعتمادات المرصودة لها، مع الاجتهاد في إيجاد بدائل للتمويل، من شأنها إعطاء دفعة قوية لمختلف هذه الاستراتيجيات.

وفي هذا الإطار، نؤكد على ضرورة تطوير الآليات التعاقدية المتعلقة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص. هدفنا تحقيق الاستفادة المثلى من الاستثمارات المتاحة.

وإدراكا منا لأهمية هذه الشراكة، اعتمدنا مقاربة مبتكرة، من خلال إحداث الهيأة المغربية للاستثمار، التي تضم صناديق الاستثمارات القطاعية الوطنية. هذه الهيأة التي تتوخى تعزيز الاستثمار في مختلف المجالات المنتجة، وتحفيز الشراكات مع المؤسسات الدولية. غايتنا تمكين بلادنا من فرص التمويل، التي تتيحها الصناديق السيادية الخارجية، وبصفة خاصة صناديق دول الخليج الشقيقة، التي نشيد بإسهامها الفعال في دعم المشاريع التنموية ببلادنا.

وفي هذا الصدد، ينبغي التذكير بأن القطاع السياحي يشكل عاملا قويا في النهوض بالتشغيل، وتنمية الثروة الوطنية، انطلاقا مما يتوفر عليه المغرب من مؤهلات طبيعية متنوعة، وخصوصيات حضارية وتراثية غنية.

وقد اعتمدنا منذ سنة 2001، استراتيجية شاملة، قوامها برامج محددة٬ ساهمت في تطوير هذا القطاع وتنميته. وذلك ما جعلنا نعمل على تدعيمه في نطاق رؤية 2020، المعززة بصندوق “وصال” للاستثمار السياحي، والقائمة أساسا على التنمية المستدامة. وهو ما يجعل المغرب وجهة سياحية متميزة في الفضاء المتوسطي.

شعبي العزيز،

لقد حرصنا على جعل العنصر البشري، وخاصة شبابنا الواعد، في صلب كل المبادرات التنموية، وغايتها الاساسية. وهو ما نعمل على تجسيده في مختلف مشاريع وبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.

واعتبارا لما حققته هذه المبادرة من نتائج إيجابية في النهوض بالفئات المعوزة، قررنا تقوية أنشطتها، ولاسيما منها المدرة للدخل، وتوسيع مجالاتها بإطلاق البرنامج التأهيلي الخامس، الكفيل بسد الخصاص بالمناطق الاكثر هشاشة، التي تفتقر الى التجهيزات الأساسية الضرورية، داعين الحكومة إلى توفير شروط تفعيل هذا البرنامج .

ومن منطلق حرصنا القوي على تحقيق الإنصاف، ومساعدة الأشخاص الأكثر حرمانا، حرصنا على تفعيل نظام المساعدة الطبية لفائدتهم (راميد) .هذا النظام الذي كان ثمرة إعداد طويل المدى، انخرط فيه المغرب منذ عشر سنوات، بقصد النهوض بالفئات المعوزة. وهو ما يستوجب من الحكومة بذل كل الجهود لإنجاح هذا النظام، من خلال استهداف دقيق للفئات المعنية، والتكفل بالخدمات المحددة بطرق مناسبة.

ولجعل هذا النظام يحافظ على هدفه الإنساني، يتعين الحرص على ألا يقع استغلاله من طرف أي توجهات سياسوية، من شأنها تحريفه عن مساره النبيل٬ مع ما يترتب على ذلك من إخلال في هذا المجال أو فيما سواه من المجالات الاجتماعية.

كما نحثها على التجاوب مع المتطلبات الاجتماعية للمواطنين، مع الحرص على تحقيق حكامة جيدة للسياسة المالية لبلادنا، بهدف تحصين قدراتها التنموية، والحفاظ على مصداقيتها على الصعيد الدولي.

واقتناعا منا بضرورة الحفاظ على مستقبل أجيالنا القادمة، لم نفتأ نؤكد على تلازم التنمية مع ضمان حماية بيئتنا٬ بما يكفل التنمية المستدامة لبلادنا . لذا، نعمل بكل حزم، على الحفاظ على ثرواتنا الطبيعية، وحسن تدبيرها واستثمارها للنهوض بالاقتصاد الوطني. وفي إطار هذا التوجه، يندرج البرنامج الطموح الذي أطلقناه، لإنتاج الطاقات المتجددة من مصادر ريحية وشمسية، لتخفيض وارداتنا من الطاقات التقليدية، وتخفيف عبئها على الاقتصاد الوطني.

شعبي العزيز،

ستظل الدبلوماسية المغربية وفية لثوابتها العريقة في التعامل مع العالم الخارجي، على أساس الثقة في الذات، واحترام الشرعية الدولية، والالتزام بكل ما يعزز السلم والامن الدوليين، ومناصرة القضايا العادلة، وتقوية علاقات التعاون الدولي في كل مجالاته.

ففيما يتعلق بمحيطنا المغاربي المباشر٬ فإن التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة، تمنحنا فرصة تاريخية للانتقال بالاتحاد المغاربي من الجمود الى حركية تضمن تنمية مستدامة ومتكاملة .

لقد سبق لنا أن دعونا الى انبثاق نظام مغاربي جديد، لتجاوز حالة التفرقة القائمة بالمنطقة، والتصدي لضعف المبادلات٬ بقصد بناء فضاء مغاربي قوي ومنفتح .

وإلى أن يتم تحقيق هذا المبتغى الاستراتيجي، سيواصل المغرب مساعيه في أفق تقوية علاقاته الثنائية، مع كافة الشركاء المغاربيين، بمن فيهم جارتنا الشقيقة الجزائر. وذلك استجابة للتطلعات الملحة والمشروعة لشعوب المنطقة، لاسيما ما يتعلق بحرية تنقل الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال والخدمات.

ولهذه الغاية٬ تؤكد المملكة المغربية عزمها على الاستمرار في الانخراط بحسن نية في مسلسل المفاوضات، الهادف الى إيجاد حل نهائي للخلاف الإقليمي المفتعل، حول الصحراء المغربية، على أساس المقترح المغربي للحكم الذاتي، المشهود له بالجدية والمصداقية من طرف المجتمع الدولي، وذلك في إطار سيادة المغرب ووحدته الترابية .

وإن انخراط المغرب في هذا المسلسل لا يعادله إلا عزمه على التصدي٬ بكل حزم لأي محاولة للنيل من مصالحه العليا، أو للإخلال بالمعايير الجوهرية للمفاوضات.

وفي أفق التوصل إلى حل سياسي دائم في إطار الأمم المتحدة، وانطلاقا من الشرعية التاريخية للمغرب، ورجاحة موقفه القانوني٬ فإن المغرب منكب على تحقيق الجهوية المتقدمة في الصحراء المغربية، ومواصلة إنجاز أوراش التنمية الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة الأثيرة لدينا، ولدى قلوب المغاربة أجمعين.

وبالنسبة للعالم العربي، فإن الواقع السياسي الراهن، يحتم أكثر من أي وقت مضى٬ القيام بتطوير العمل العربي المشترك، في أفق الاستجابة لتطلعات شعوبه في إطار من التضامن الفعال، والالتزام المتبادل، تجاه ما يقتضيه بناء المستقبل العربي، من ترسيخ أسباب التعاون المثمر، وتقاسم المصالح العليا لأبنائه.

وفي هذا الصدد، نثمن القرارات التي تم اتخاذها لتجسيد الشراكة الاستراتيجية التي تجمع بين المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي، مؤكدين التزامنا الراسخ بتعميق علاقاته مع هذه الدول الشقيقة٬ وتعزيزها في جميع المجالات.

بيد أنه لا يجوز بأي حال أن تحجب التطورات الحالية، ضرورة التعاطي دوليا مع القضية الفلسطينية الجوهرية، بشكل فعال وملموس. فقد بات من الضروري إعادة النظر في طريقة تعامل المجتمع الدولي مع هذه القضية، علما أن الغاية التي لا محيد عنها تتمثل في ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة، وقابلة للحياة، داخل حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

أما منطقة الساحل والصحراء، فإنها تشهد مخاطر عديدة، تشكل تهديدا للوحدة الترابية والوطنية للدول، مما يقتضي من المجتمع الدولي أن يوليها اهتماما عاجلا من خلال القيام بمبادرات حازمة.

وبخصوص الدول الإفريقية جنوب الصحراء، فإن المملكة المغربية تظل منخرطة في المشاريع الفعالة للتعاون معها. هدفها دعم برامج التنمية البشرية المحلية في القطاعات ذات الأولوية.

وأما بالنسبة للقارة الأوروبية، فإن علاقة المغرب مع الاتحاد الأوروبي، قد دخلت مرحلة جديدة، نعتبرها إطارا مرجعيا لمقاربة جيو – سياسية واعدة٬ تتوخى إعادة النظر في أسس الفضاء الأورو– متوسطي، بناء على وحدة المصالح والمبادرات المشتركة.

لقد حان الوقت لإعطاء دفعة وتوجه جديد للاتحاد من أجل المتوسط، كي يصبح محفزا حقيقيا، وقاطرة لتحقيق الرخاء المشترك، بضفتي البحر الأبيض المتوسط.

وفي سياق العلاقات المتطورة مع جميع دول الاتحاد الأوروبي، نود الإشادة بعمق الروابط التاريخية، وبالآفاق الواسعة التي تجمع المغرب بالجارة إسبانيا، المدعومة بالأواصر الوطيدة التي تجمعنا بجلالة الملك خوان كارلوس الأول، وبالوشائج التاريخية بين الأسرتين الملكيتين في البلدين الجارين.

وفي هذه الظرفية الصعبة التي نجتازها٬ نعرب مجددا عن التزامنا بتسهيل سبل إتاحة الفرص، لتوفير ظروف اقتصادية جديدة وملائمة، من أجل خلق ثروات مشتركة، تجسيدا لعمق التضامن الفعلي بين بلدينا.

وقد أصدرنا توجيهاتنا السامية للحكومة٬ لتفعيل هذا الشأن، بما يقتضيه الأمر من اهتمام وسرعة في التنفيذ.

وتنويع شراكاتها الواعدة مع باقي مناطق المعمور. وذلك بالتركيز على التنمية البشرية، في إطار تعاون ملموس جنوب – جنوب، مع شركائنا في مختلف البلدان النامية.

وسيواصل المغرب بذل مساعيه الحثيثة، في إطار المنظمات الدولية، مؤكدا التزامه بالدفاع عن التعاون متعدد الأطراف، وفقا للأهداف النبيلة لميثاق منظمة الأمم المتحدة.

شعبي العزيز،

إننا، ونحن نستحضر في هذه المناسبة الوطنية الخالدة، تقييم المنجزات الإصلاحية، والمبادرات التنموية، واستشراف الآفاق المستقبلية الواعدة، والشروع في تفعيل الدستور، لا يسعنا إلا أن نستشعر بكل وفاء مدى الإجلال للأرواح الطاهرة لقائدي تحرير المغرب وبناء دولته العصرية، جدنا المقدس، جلالة الملك محمد الخامس، ووالدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراهما٬ وكافة شهداء الحرية والاستقلال والوحدة الترابية الأبرار، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، جزاهم الله عن وطنهم وأمتهم خير الجزاء.

كما نتوجه بعبارات الإشادة والتقدير إلى قواتنا المسلحة الملكية، والدرك الملكي، والأمن الوطني والإدارة الترابية والقوات المساعدة والوقاية المدنية على تجندهم الدائم وعملهم الدؤوب وراء قيادتنا للدفاع عن حوزة المغرب وسيادته والسهر على أمنه واستقراره.

والله تعالى نسأل في هذه الأيام الرمضانية المباركة الجديرة باستجابة المولى جلت قدرته أن يلهمنا وكافة من يتحملون أمانة النهوض بمصالح الأمة وخدمة الصالح العام كامل السداد والتوفيق في ظل ترسيخ دولة الحق والمؤسسات والمواطنة الكريمة والتعايش والوئام والوحدة الوطنية والترابية.

” إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا “. صدق الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

نص الخطاب السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يوم الثلاثاء 30 يوليوز 2013، إلى الأمة بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لاعتلاء جلالته عرش أسلافه الميامين

“الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.

شعبي العزيز،

إن احتفالك بذكرى عيد العرش المجيد، سيرا على تقاليدك العريقة، لا ينحصر مغزاه فقط في تجسيد ولائك الدائم لخديمك الأول، المؤتمن على قيادتك، وصيانة وحدتك. إنه يؤكد أيضا، وبصورة متجددة، رسوخ البيعة المتبادلة بيني وبينك، للمضي بالمغرب في طريق التقدم والازدهار، والتنمية والاستقرار. كما يجسد وفاءك لثوابت الأمة ومقدساتها.

لقد عملنا منذ اعتلائنا العرش، على إطلاق العديد من الأوراش الاقتصادية والاجتماعية، في موازاة مع الإصلاحات السياسية والمؤسساتية، في تجاوب مع تطلعاتك. وقد جعلنا كرامة المواطن المغربي وازدهاره، في صلب اهتمامنا. إنها مسيرة متواصلة، قوامها مبادرات جريئة، وأعمال حازمة، ومقاربات تشاركية، مع الاستغلال الأنجع لكل الإمكانات المتاحة.

وخلال هذه المسيرة، عملت كل الحكومات السابقة، وبتوجيهاتنا، على تكريس جهودها المشكورة، لبلورة رؤيتنا التنموية والإصلاحية. وهكذا وجدت حكومتنا الحالية، بين يديها، في المجال الاقتصادي والاجتماعي، إرثاً سليماً وإيجابيا، من العمل البناء، والمنجزات الملموسة. ومن ثم لا يسعنا إلا أن نشجعها على المضي قدما، بنفس الإرادة والعزم، لتحقيق المزيد من التقدم، وفق المسار القويم، الذي نسهر عليه.

شعبي العزيز،

إن عزمنا الراسخ على تجسيد خيارنا، في استكمال المؤسسات الدستورية، ومقومات الحكامة الجيدة، في ظل دولة الحق والقانون، لا يعادله إلا عملنا الدؤوب، في سبيل تحقيق مشروعنا، الذي قوامه النمو الاقتصادي المستمر، والتنمية المستدامة، والتضامن الاجتماعي.

وبذلك، حقق المغرب تقدماً كبيراً على مستوى البنيات الأساسية، حيث تم تزويد مختلف مدننا وقرانا بالماء الصالح للشرب والكهرباء، وغيرهما. كما تم تحقيق تطور ملموس، على مستوى التجهيزات الكبرى، كالموانئ والمطارات، وتعزيز الشبكة الطرقية، والتدبير الأمثل للموارد المائية، وإطلاق مشاريع تطوير النقل السككي، والنقل الحضري. كل ذلك غير من ملامح مختلف الأقاليم، وأعطى المغرب وجها جديدا، ووفر الظروف الملائمة لتطوير الاستراتيجيات المعتمدة في شتى القطاعات.

كما أن التنفيذ التدريجي للاستراتيجيات القطاعية، قد مكن بلادنا من إحراز تقدم ملموس، وزاد من جلب الاستثمار الأجنبي، على الرغم من وضعية اقتصادية ومالية عالمية صعبة.

وإذ نؤكد التزامنا بتشجيع الاستثمار، فإننا نجدد دعوتنا للحكومة، لإعطاء الأسبقية، لكل ما يُحفز على النمو، وتوفير فرص الشغل، في تكامل بين متطلبات الاستهلاك المحلي، وبين قابلية إنتاجنا للتصدير، بما يعنيه ذلك من انعكاسات إيجابية على ميزان الأداءات.

وفي نفس التوجه، انكب المغرب منذ سنوات، على تنمية مهن صناعية عالمية، في إطار مخطط “إقلاع”. وقد أعطى، ولله الحمد، نتائج تشجعنا على الاستمرار في نفس النهج. وفي هذا الصدد، ندعو الحكومة إلى توفير الظروف الملائمة لتنويع وتوسيع نسيجنا الصناعي، وذلك وفق سياسة إرادوية، تقوي الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

ويندرج في نفس التوجه، تمكين المغرب من إنتاج الطاقات المتجددة، الذي يجسد رؤيتنا للتنمية المستدامة. ومن هذا المنطلق، كان تنفيذ برنامج الطاقة الشمسية، المتمثل في انطلاق أوراش بناء “مجمع النور بورزازات”، بموازاة الاستحقاقات المسجلة، في إطار الطاقة الريحية. فهذه الأوراش، علاوة عما لها من أهمية بيئية، ستجعلنا أقل تبعية للطاقات المستوردة. وهو ما يتطلب سياسة تكوين ناجعة، وتطوير الكفاءات الوطنية. مما سيساعد على تفعيل الميثاق الوطني للبيئة.

وبرغم الأزمة المالية العالمية، فإن القطاع السياحي في المغرب استطاع أن يحمي نفسه من تداعياتها السلبية، بفضل الجهود والمبادرات، التي سهرنا على تفعيلها، خلال السنوات الأخيرة. ومن شأن ذلك أن يحفز جميع الشركاء والفاعلين، في هذا القطاع، من أجل تحقيق رؤية 2020.

كما أن اعتماد استراتيجية فلاحية متقدمة، ينبع من إيماننا الراسخ، بأهمية هذا القطاع الحيوي. وإننا لنحمد الله، على ما أنعم به علينا هذه السنة، من أمطار الخير، وما نتج عنها من محاصيل وافرة.

لقد عمل برنامج “المغرب الأخضر” على تحديث القطاع الفلاحي، آخذا بعين الاعتبار، الاهتمام الموصول بصغار الفلاحين، من أجل تحسين ظروفهم المعيشية.

وحرصا منا على تجسيد رعايتنا  لهذه الفئة، فإننا سنظل نخصها بالاستثناء الضريبي، الذي سينتهي العمل به في آخر السنة الجارية، بالنسبة للاستثمارات الفلاحية الكبرى، وسوف نحتفظ بسريان هذا الاستثناء، على الفلاحة المتوسطة والصغرى.

كما ندعو الحكومة، إلى إحداث وكالة خاصة، تعمل على ملاءمة الاستراتيجية الفلاحية، مع محيط المجال الترابي لساكنتها، ولا سيما في المناطق الجبلية، التي تعرف تخلفا في استغلال الأراضي، وذلك في تكامل تام مع برامج التهيئة المجالية.

وبنفس التوجه، عملنا على النهوض بقطاع الصيد البحري، من خلال مخطط “أليوتيس”، الذي حقق تقدماً ملموسا وواعدا، يتعين دعمه.

ويظل هدفنا الأساسي من النمو الاقتصادي هو تحقيق العدالة الاجتماعية، التي هي أساس التماسك الاجتماعي.

ومن هذا المنظور، يتعين اعتبار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ورشا متطورا باستمرار. إنه خارطة طريق، لرؤية تنموية، شاملة ومقدامة، لا تقتصر فقط، على  الفئات الفقيرة والأسر المعوزة، وإنما تنفتح على كل الأوراش التنموية، الهادفة إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية. مؤكدين ضرورة تقوية وتوسيع البرامج الحالية لهذه المبادرة، بآليات أخرى، تعطي الأولوية للمشاريع المدرة للدخل.

وننوه بهذه المناسبة، بالنتائج غير المسبوقة، للبرامج الوطنية المؤطرة في مجال مكافحة الأمية، ولا سيما التي أطلقناها بالمساجد، منذ سنة 2004. حيث سيبلغ عدد المستفيدين، هذه السنة، نحو مليون ونصف، وهو ما يعني تمكينهم من الانخراط في التنمية الشاملة لبلادهم.

واعتبارا لما تقتضيه التنمية البشرية، من تكامل بين مقوماتها المادية والمعنوية، فإننا حريصون على إعطاء الثقافة ما تستحقه من عناية واهتمام، إيمانا منا بأنها قوام التلاحم بين أبناء الأمة، ومرآة هويتها وأصالتها.

ولما كان المغرب غنيا بهويته، المتعددة الروافد اللغوية والإثنية، ويملك رصيداً ثقافيا وفنيا، جديراً بالإعجاب، فإنه يتعين على القطاع الثقافي أن يجسد هذا التنوع، ويشجع كل أصناف التعبير الإبداعي، سواء منها ما يلائم تراثنا العريق، أو الذوق العصري، بمختلف أنماطه وفنونه، في تكامل بين التقاليد الأصيلة، والإبداعات العصرية.

ولن يتم حفاظنا على هويتنا، وصيانتها من مخاطر الانغلاق والتحريف، إلا بالفهم السليم لديننا. ومن ثم ما فتئنا، منذ اعتلائنا العرش، حريصين، بصفتنا أميرا للمؤمنين، وحاميا لحمى الملة والدين، على صيانة الهوية الإسلامية لشعبنا، باعتبارها تشكل نموذجا مغربيا متميزا في الممارسة للإسلام، عقيدة سمحة ووحدة مذهبية مالكية، قائمة على الوسطية والاعتدال. وتفعيلا لهذا التوجه، قمنا بإطلاق “استراتيجية” للنهوض بالشأن الديني، عززناها بخطة “ميثاق العلماء”، جاعلين في مقدمة أهدافها، توفير الأمن الروحي للمملكة، والحفاظ على الهوية الإسلامية المغربية.

شعبي العزيز،

ما فتئنا منذ تولينا أمانة قيادتك، نضع إصلاح القضاء، وتخليقه وعصرنته، وترسيخ استقلاله، في صلب اهتماماتنا، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم. وإنما أيضا لتوفير مناخ الثقة، كمحفز على التنمية والاستثمار. وفي هذا الصدد، نسجل بارتياح التوصل إلى ميثاق لإصلاح المنظومة القضائية. حيث توافرت له كل الظروف الملائمة. ومن ثم، فإنه يجب أن نتجند جميعا، من أجل إيصال هذا الإصلاح الهام، إلى محطته النهائية.

ومهما تكن أهمية هذا الإصلاح، وما عبأنا له من نصوص تنظيمية، وآليات فعالة، فسيظل “الضمير المسؤول” للفاعلين فيه، هو المحك الحقيقي لإصلاحه، بل وقوام نجاح هذا القطاع برمته.

وإننا إذ نستحضر ما تم إنجازه في المسيرة التنموية والإصلاحية التي نقودها، نرى من الضروري أن نعبر عن اعتزازنا بما يتحلى به أفراد جاليتنا في الخارج، من روح المواطنة، والتعلق الدائم بوطنهم الأم. إذ برغم تأثير الأزمة المالية العالمية هذه السنة، على أوضاعهم المالية، فإنهم يتحملون مشاق الأسفار، ومنهم من يقطع المسافات الطويلة عبر أوروبا، لزيارة بلدهم، وصلة الرحم مع ذويهم. لذلك نشيد بوطنيتهم الصادقة، ونعبر عن ترحيبنا بهم، مشمولين بكامل عطفنا ورعايتنا.

شعبي العزيز،

لقد تم تحقيق المزيد من التعاطف الدولي مع قضيتنا الأولى، على أساس الإلمام بحيثيات وملابسات وحدتنا الترابية. الأمر الذي يتجلى في الدعم المتنامي لمبادرتنا الوجيهة، المتمثلة في الحكم الذاتي.

ومما نسجله في هذا الصدد، أن القرار الأخير لمجلس الأمن، قد أكد بصفة حازمة، المعايير التي لا محيد عنها، للتوصل إلى الحل السياسي، التوافقي والواقعي. كما يبرز هذا القرار، بصفة خاصة، البعد الإقليمي لهذا الخلاف، وكذا مسؤولية الجزائر، التي تعدُّ معنية به، سواء على المستوى السياسي، أو على المستوى القانوني الإنساني، المتعلق بالوضعية المهينة لمخيمات تندوف.

وعملا بنفس القرار، يتعين ألا يتم التعاطي مع مسألة حقوق الإنسان، إلا من خلال الآليات الوطنية، وخاصة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي يحظى بالمصداقية الدولية، وبمبادرات سيادية قوية، تتفاعل إيجابياً مع المساطر الخاصة للأمم المتحدة.

وفي مواجهة الموقف المتعنت للأطراف الأخرى، لإبقاء الوضع على ما هو عليه، وكذا حملاتها التضليلية، سيعمل المغرب على مواصلة الدينامية، التي أطلقها على الصعيد الداخلي، والتي تسعى في المقام الأول إلى تحقيق المزيد من الحكامة الاقتصادية والاجتماعية الجيدة، من خلال النموذج التنموي الجهوي، الذي يسهر على إعداده المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. والذي نتطلع إلى تفعيله، بكل نجاعة والتزام.

كما تتضمن هذه الدينامية، في المقام الثاني، تعزيز الحكامة الترابية والمؤسساتية، عبر الاستثمار الأمثل، للآفاق التي تتيحها الجهوية المتقدمة.

أما في المقام الثالث، فستعنى هذه الدينامية بتحسين الحكامة السياسية الأمنية، لحماية الحريات الفردية والجماعية، للمواطنين وللممتلكات. في إطار مراعاة المقتضيات والضمانات التي يكفلها القانون.

ويتطلب هذا المسار المنصف والوجيه، من حيث طبيعته وأبعاده، تعبئة كافة القوى الحية، ومواكبتها للجهود التي تبذلها السلطات العمومية، في هذا المجال.

شعبي العزيز،

ما فتئ المغرب منذ اعتلائنا العرش، يعرف على مستوى علاقاته الخارجية، تطورا موصولا وتقدما ملحوظا، في انسجام تام مع مختلف السياسات العمومية، التي ينهجها في الداخل.

وفي هذا السياق، لم نزل نعمل على نهج سياسة دولية متوازنة، متعددة الاتجاهات، حيث تمكنا من تقوية علاقاتنا مع شركائنا التقليديين بصورة ملموسة، ومن فتح آفاق جديدة وواعدة، مع الشركاء الجدد.

وفي هذا الإطار، ظل المغرب يتطلع إلى انبثاق نظام مغاربي جديد، يمكن دوله الخمس، من بناء مستقبل مشترك، تجسده على أرض الواقع آليات التكامل والاندماج، وحرية الانتقال للأشخاص والأموال والممتلكات، بعيداً عن افتعال المعيقات، وفرض الشروط، وذلك في تناغم مع التغيرات التي عرفتها الساحة الإقليمية.

وإن المغرب لتحدوه نفس القناعة، فيما يخص العالم العربي حيث يسعى، بتوافق مع جميع دوله، إلى بلورة منهجية جديدة، للعمل العربي المشترك.

وفي هذا السياق، قررنا بمناسبة زيارتنا لبلدان مجلس التعاون الخليجي، إرساء قواعد شراكة استراتيجية بين المملكة، وهذه المجموعة الإقليمية، المنسجمة والواعدة، مسجلين بكل ارتياح، النتائج الإيجابية الأولى لهذه الشراكة.

ونود بهذه المناسبة، أن نوجه عبارات الشكر والامتنان، على قرار الدعم المالي للمغرب، من لدن إخواننا المبجلين: خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، عاهل المملكة العربية السعودية، وصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وصاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت، وكذا صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وخلفه، صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر. هذا الدعم المتمثل في تقديم هبة مليار دولار سنويا للمغرب، على مدى خمس سنوات، وعلى تفعيل هذا القرار.

ومن جهة أخرى، ما فتئنا نواصل جهودنا على رأس لجنة القدس، للدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، من أجل أن يعيش الشعب الفلسطيني الشقيق، ضمن دولة مستقلة داخل أراضيه، على أساس مبادرة السلام العربية.

كما نتابع دعمنا والتزامنا، بالحفاظ على الهوية الحضارية والدينية، لمدينة القدس الشريف، ولاسيما من خلال لجنة القدس، والذراع الميداني لها، “وكالة بيت مال القدس”. هذه الوكالة، التي تقوم بإنجاز العديد من المشاريع الملموسة. ومما لا شك فيه أن هذه الوكالة ستحقق أكثر ما يمكن من النفع العام، إذا ما تلقت الدعم المادي، من مختلف الدول الإسلامية، طبقا للالتزامات المشتركة، التي تعهدت بها هذه الدول، عند إنشاء هذه الوكالة المتخصصة.

وقد واصل المغرب سياسته التضامنية، تجاه الدول الإفريقية الشقيقة، مكرسا بذلك قناعته العميقة، بخصال التعاون جنوب – جنوب.

وفي هذا الصدد، قمنا بزيارات رسمية خلال هذه السنة، لثلاث دول إفريقية شقيقة، ساعين إلى توطيد الأواصر، التي تجمع المغرب بقارته. وقد كانت هذه الزيارات، مناسبة لوقوفنا على طلب هذه الدول، للاستثمارات والخبرة المغربية. ومن ثم، ندعو الفاعلين المغاربة، للتجاوب مع هذا الطلب، لتحقيق المزيد من الاندماج، والتقارب والتكامل، بين اقتصادياتنا.

كما واصلت المملكة استراتيجيتها الانفتاحية، والمبنية على التفاعل الإيجابي، مع شركائها الأوروبيين. ومن ثم، فإن المغرب حريص على تعزيز علاقاته الثنائية، مع المملكة الإسبانية، والجمهورية الفرنسية، بمناسبة الزيارات، التي قام بها كل من جلالة العاهل الإسباني، خوان كارلوس الأول، وفخامة الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند. كما تتواصل المساعي المشتركة، بهدف توطيد أكثر للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، في إطار الوضع المتقدم، الذي يتميز به المغرب، وذلك من خلال فتح آفاق جديدة وواعدة، لهذا التعاون.

وقد امتد هذا الإشعاع الدبلوماسي إلى كل القارات الأخرى، والفاعلين الدوليين فيها، ساهرين على تقوية علاقاتنا معهم.

وفي السياق ذاته، عمل المغرب على رفع صوت إفريقيا، والعالم العربي عاليا، في مجلس الأمن، بصفته عضوا غير دائم فيه.

وفي هذا الصدد، نود التأكيد باسم المغرب، عن تضامنه مع الشعب السوري الشقيق، الذي يعاني مآسي الصراع الدموي الرهيب والمدمر، مؤيدين لخياراته المصيرية، ووحدته الترابية. كما نقف إلى جانب جمهورية مالي الشقيقة، في الحفاظ على وحدتها الترابية، وخيارها الوطني، في صيانة هويتها من التطرف والنزوعات الإرهابية.

وسنواصل عملنا وفق هذه التوجهات الدبلوماسية المغربية، المرتكزة على آليات التعاون المتجددة، المتأقلمة مع المتغيرات الدولية.

شعبي العزيز،

في هذا اليوم الوطني الأغر، الذي يصادف أيام رمضان الأبرك، نستحضر بكل إجلال وترحم، الأرواح الطاهرة، لرواد التحرير والاستقلال، وبناة صرح الدولة المغربية الحديثة، وفي طليعتهم جدنا ووالدنا المنعمان، جلالة الملكين، محمد الخامس، والحسن الثاني، أكرم الله مثواهما، وخلد في الصالحات ذكرهما. وكافة شهداء التحرير والمقاومة، والوحدة الترابية. أجزل الله ثوابهم.

كما نشيد بالقوات المسلحة الملكية، والدرك الملكي، والأمن الوطني، والقوات المساعدة، والإدارة الترابية والوقاية المدنية، على تفانيهم بقيادتنا، في الدفاع عن أمن الوطن واستقراره.

وسأظل، شعبي العزيز، كما تعهدني، أواصل قيادة مسيرتك الديمقراطية، والتنموية، في تفان وإخلاص، من أجل مغرب موحد وقوي، متقدم ومزدهر، داعياً العلي القدير، أن يوثق أواصر التلاحم بيني وبينك. هذا التلاحم الذي هو سلاحنا القوي، لرفع التحديات، وبلوغ أسمى الغايات. كما أدعوه سبحانه أن يتقبل صيامك وقيامك، ويسعدك في الحال والمآل.

“ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”

نص الخطاب الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يوم الجمعة 10 اكتوبر 2014، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية التاسعة

“الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

تأتي السنة التشريعية، التي نفتتحها اليوم، في سياق خاص، قبل عامين من نهاية الولاية التشريعية الحالية، التي حددها الدستور كأجل لإخراج جميع القوانين التنظيمية.

وهي أيضا سنة استكمال البناء السياسي والمؤسسي، الذي يوطد المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، التي حققها المغرب، في مختلف المجالات، والتي سبق عرضها في خطابي العرش و20 غشت.

وكما قلت سابقا، فنحن نعرف من نكون، ونعرف إلى أين نسير، كما نعرف مؤهلاتنا، وما يواجهنا من صعوبات وتحديات.

لقد وصل المغرب اليوم، والحمد لله، إلى مستوى متميز من التقدم. فالرؤية واضحة، والمؤسسات قوية بصلاحياتها، في إطار دولة القانون.

وهو مصدر افتخار لنا جميعا، ومن حق كل المغاربة، أفرادا وجماعات، أينما كانوا، أن يعتزوا بالانتماء لهذا الوطن.

وكواحد من المغاربة، فإن أغلى إحساس عندي في حياتي هو اعتزازي بمغربيتي.

وأنتم أيضا، يجب أن تعبروا عن هذا الاعتزاز بالوطن، وأن تجسدوه كل يوم، وفي كل لحظة، في عملكم وتعاملكم، وفي خطاباتكم، وفي بيوتكم، وفي القيام بمسؤولياتكم.

ولمن لا يدرك معنى حب الوطن، ويحمد الله تعالى، على ما أعطاه لهذا البلد، أقول: تابعوا ما يقع في العديد من دول المنطقة، فإن في ذلك عبرة لمن يعتبر. أما المغرب فسيواصل طريقه بثقة للحاق بالدول الصاعدة.

إن هذا الاعتزاز بالانتماء للمغرب هو شعور وطني صادق ينبغي أن يحس به جميع المغاربة.

إنه شعور لا يباع ولا يشترى، ولا يسقط من السماء. بل هو إحساس نبيل، نابع من القلب، عماده حسن التربية، على حب الوطن وعلى مكارم الأخلاق. إنه إحساس يكبر مع المواطن، ويعمق إيمانه وارتباطه بوطنه.

والاعتزاز لا يعني الانغلاق على الذات، أو التعالي على الآخر. فالمغاربة معروفون بالانفتاح والتفاعل الإيجابي مع مختلف الشعوب والحضارات.

غير أن تعزيز هذا الإحساس، والحفاظ عليه، يتطلب الكثير من الجهد، والعمل المتواصل، لتوفير ظروف العيش الكريم، لجميع المواطنين، وتمكينهم من حقوق المواطنة. ولكنه يقتضي منهم أيضا القيام بواجباتها.

وهنا اتوجه لكم معشر السياسيين، لأقول لكم إنكم: مسؤولون بالدرجة الأولى، على الحفاظ على هذا الاعتزاز بل وتقويته، من خلال تعزيز ثقة المواطن في المؤسسات الادارية والمنتخبة، ومن خلال الرفع من مصداقيتها ونجاعتها، ليشعر المواطن انها فعلا في خدمته.

ولجميع المواطنين أقول: انتم مصدر وغاية هذا الاعتزاز، والوطن لا يكون إلا بكم. فعليكم أن تجسدوا ذلك، بالانخراط في كافة مجالات العمل الوطني، وخاصة من خلال التصويت في الانتخابات، الذي يعد حقا وواجبا وطنيا، لاختيار من يقوم بتدبير الشأن العام.

السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

إن بلدنا يحظى بالتقدير والاحترام، وبالثقة والمصداقية، جهويا ودوليا . كما ان لدينا صورة إيجابية لدى شعوب العالم.

غير انه يجب ان نعرف جميعا، ان هناك في المقابل، جهات تحسد المغرب، على مساره السياسي والتنموي، وعلى أمنه واستقراره، وعلى رصيده التاريخي والحضاري، وعلى اعتزاز المغاربة بوطنهم.

وأستحضر هنا، قول جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، “اللهم كثر حسادنا”. لأن كثرة الحساد، تعني كثرة المنجزات والخيرات. أما من لا يملك شيئا، فليس له ما يحسد عليه.

ورغم مناورات الحساد، فإننا حريصون على احترام ممارسة الحقوق والحريات. وبموازاة ذلك، فإن من واجبات المواطنة الالتزام باحترام مؤسسات الدولة، التي ترجع حمايتها للسلطات الحكومية والقضائية المختصة، وللمؤسسات الحقوقية ، وهيآت الضبط والحكامة، كل من موقعه.

إننا لسنا ضد حرية التعبير، والنقد البناء، وإنما ضد العدمية والتنكر للوطن. فالمغرب سيبقى دائما بلد الحريات التي يضمنها الدستور.

كما أن المغرب، في حاجة لكل أبنائه، ولجميع القوى الحية والمؤثرة، وخاصة هيئات المجتمع المدني، التي ما فتئنا نشجع مبادراتها الجادة، اعتبارا لدورها الايجابي كسلطة مضادة وقوة اقتراحية، تساهم في النقد البناء وتوازن السلط.

السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

إن السنة التشريعية الحالية، سنة حاسمة في المسار السياسي لبلادنا، بالنظر للاستحقاقات التي تتضمنها.

وأود هنا، أن اؤكد أن الخيار الديمقراطي، الذي ارتضاه جميع المغاربة ، ثابت لا رجعة فيه. بل إننا ملتزمون بمواصلة ترسيخه.

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، وبكل إلحاح: هل تمت مواكبة هذا التقدم، من طرف جميع الفاعلين السياسيين، على مستوى الخطاب والممارسة؟ إن الخطاب السياسي يقتضي الصدق مع المواطن، والموضوعية في التحليل، والاحترام بين جميع الفاعلين، بما يجعل منهم شركاء في خدمة الوطن، وليس فرقاء سياسيين، تفرق بينهم المصالح الضيقة.

غير أن المتتبع للمشهد السياسي الوطني عموما، والبرلماني خصوصا يلاحظ أن الخطاب السياسي، لا يرقى دائما إلى مستوى ما يتطلع إليه المواطن، لأنه شديد الارتباط بالحسابات الحزبية والسياسوية.

فإذا كان من حق أي حزب سياسي، أو أي برلماني، أن يفكر في مستقبله السياسي، وفي كسب ثقة الناخبين، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب القضايا الوطنية الكبرى، والانشغالات الحقيقية للمواطنين.

أما ممارسة الشأن السياسي، فينبغي أن تقوم بالخصوص، على القرب من المواطن، والتواصل الدائم معه، والالتزام بالقوانين والأخلاقيات، عكس ما يقوم به بعض المنتخبين من تصرفات وسلوكات، تسيء لأنفسهم ولأحزابهم ولوطنهم، وللعمل السياسي، بمعناه النبيل.

وهو ما يقتضي اعتماد ميثاق حقيقي لأخلاقيات العمل السياسي، بشكل عام، دون الاقتصار على بعض المواد، المدرجة ضمن النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان.

كما أنها تتطلب، قبل كل شيء، الانكباب الجدي، على الأسبقيات الوطنية، مع تغليب روح التوافق الإيجابي، وخاصة خلال إقرار القوانين التنظيمية المتعلقة بالمؤسسات الدستورية والإصلاحات الكبرى.

وفي هذا الإطار، يتعين إعطاء الأسبقية لإخراج النصوص المتعلقة بإصلاح القضاء، وخاصة منها إقامة المجلس الأعلى للسلطة القضائية وإقرار النظام الأساسي للقضاة.

فالعدل أساس ضمان أمن وسلامة المواطنين، وحماية ممتلكاتهم، وعماد الأمن القضائي، المحفز للتنمية والاستثمار.

وفي ما يخص القضاء الدستوري، فإننا سنتولى قريبا إن شاء الله، تنصيب المحكمة الدستورية، بصلاحياتها الواسعة، داعين مجلسي البرلمان، للتحلي بروح المسؤولية الوطنية، ومراعاة شروط الخبرة والكفاءة والنزاهة، في اختيار الأعضاء، الذين يخول لهما الدستور صلاحية انتخابهم.

كما ينبغي استكمال إقامة مؤسسات الديمقراطية التشاركية، والحكامة الجيدة، وفق المقتضيات الجديدة، داعين الحكومة والبرلمان إلى الاستفادة أكثر، من الاستشارات والخبرات التي تتوفر عليها هذه المؤسسات.

وكما تعلمون، فإن هذه السنة ستكون حافلة أيضا باستحقاقات هامة وفي مقدمتها إقامة الجهوية المتقدمة.

وعلى بعد أقل من سنة، على الانتخابات المحلية والجهوية، أتوجه إلى جميع الفاعلين السياسيين: ماذا أعددتم من نخب وبرامج، للنهوض بتدبير الشأن العام إن التحدي الكبير الذي يواجه مغرب اليوم، لا يتعلق فقط بتوزيع السلط، بين المركز والجهات والجماعات المحلية، وإنما بحسن ممارسة هذه السلط، وجعلها في خدمة الموطن.

ومن هنا، فإن الانتخابات المقبلة، لا ينبغي أن تكون غاية في حد ذاتها. وإنما يجب أن تكون مجالا للتنافس السياسي، بين البرامج والنخب. وليس حلبة للمزايدات والصراعات السياسوية.

إننا نعتبر أنه ليس هناك فقط، فائز وخاسر في المعارك الانتخابية، بل الكل فائز. والرابح الكبير هو المغرب. لأن حتى من لم يحظوا بثقة أغلبية المواطنين، فإنهم يساهمون بمشاركتهم، في تعزيز دينامية المؤسسات المنتخبة.

كما يجب عليهم أن يشكلوا المعارضة البناءة، ويقدموا البدائل الواقعية، التي تؤهلهم للتناوب على تدبير الشأن العام.

أما الخاسر الأكبر، فيمثله الذين يعتبرون أن مقاعدهم ريعا، أو إرثا خالدا إلى الأبد. فإذا لم ينجحوا في الانتخابات يقولون بأنها مزورة. وإذا فازوا يسكتون، مستغلين نزاهتها للوصول إلى تدبير الشأن العام.

صحيح أن الانتخابات، كما هو الحال في جميع الدول، تعرف بعض التجاوزات التي يرجع البت فيها للقضاء، وللمجلس الدستوري، الذي قرر إلغاء عدد من المقاعد في الانتخابات الأخيرة.

لذا، ندعو الجميع للإعداد الجيد لهذه الاستحقاقات، والتحلي بروح الوطنية الصادقة، في احترام إرادة الناخبين.

ولا يخفى عليكم، ما يقتضيه منكم، واجب الدفاع الدائم، عن الوحدة الترابية للبلاد.

وإننا نشيد بما تبذلونه من جهود صادقة، في إطار الدبلوماسية البرلمانية والحزبية. فإذا كان من واجبي، كملك للبلاد، أن أنبه إلى الاختلالات، وأعمل على تصحيحها، فإن من واجبي أيضا أن أعطي لكل واحد حقه.

فمنذ خطابي أمامكم في السنة الماضية، قام البرلمانيون بمجهودات كبيرة، وخاصة في الوقوف ضد محاولات استغلال قضية حقوق الإنسان بأقاليمنا الجنوبية، وفي المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاق الصيد البحري.

وإننا لندعوكم لمواصلة التعبئة واليقظة، للتصدي لخصوم المغرب.

السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

إننا نعتبر أن الرأسمال البشري هو رصيدنا الأساسي، في تحقيق كل المنجزات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية، وسلاحنا لرفع تحديات التنمية، والانخراط في مجتمع المعرفة والاتصال.

لذا، ما فتئنا نعطي بالغ الأهمية، لتكوين وتأهيل مواطن، معتز بهويته، ومنفتح على القيم الكونية، ولاسيما من خلال مواصلة إصلاح منظومة التربية والتكوين.

وفي هذا الإطار، ندعو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، لإعادة النظر في منظور ومضمون الإصلاح، وفي المقاربات المعتمدة، وخاصة من خلال الانكباب على القضايا الجوهرية، التي سبق أن حددناها، في خطاب 20 غشت للسنة الماضية.

ونخص بالذكر هنا، إيجاد حل لإشكالية لغات التدريس، وتجاوز الخلافات الإيديولوجية التي تعيق الإصلاح، واعتماد البرامج والمناهج الملائمة لمتطلبات التنمية وسوق الشغل.

كما ينبغي إعطاء كامل العناية للتكوين المهني، ولإتقان اللغات الأجنبية، لتأهيل الخريجين لمواكبة التقدم التقني، والانخراط في المهن الجديدة للمغرب.

وإننا نتطلع لأن يتوج عمل المجلس، في تقييم ميثاق التربية والتكوين، والحوار الوطني الواسع، واللقاءات الجهوية، ببلورة توصيات كفيلة بإصلاح المدرسة المغربية، والرفع من مردوديتها.

وفي أفق وضع المجلس لخارطة طريق واضحة، فإن على القطاعات المعنية مواصلة برامجها الإصلاحية دون توقف أو انتظار.

وفي الختام، لا يفوتنا بمناسبة تخليد اليوم الوطني للمرأة، في 10 أكتوبر، الذي يصادف تاريخ إعلاننا، سنة 2003، عن مدونة الأسرة، أن نعبر عن تقديرنا للمرأة المغربية أينما كانت، في مختلف المواقع، ومن جميع الفئات، داخل المغرب وخارجه، لمساهمتها الفعالة في تنمية الوطن.

السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

إنكم أمام سنة تشريعية فاصلة، سواء تعلق الأمر باستكمال إقامة المؤسسات، أو بتفعيل الجهوية المتقدمة، أو بإصلاح منظومة التربية والتكوين.

فكونوا رعاكم الله في مستوى هذه الاستحقاقات، وخير قدوة، قولا وفعلا، للمواطن المعتز بالانتماء لوطنه. ” وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولا “. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

النص الكامل للخطاب السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، إلى الأمة بمناسبة الذكرى الواحدة والستين لثورة الملك والشعب - 20 غشت 2014

” الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.

شعبي العزيز،

نخلد اليوم، الذكرى الحادية والستين لثورة الملك والشعب المجيدة، ليس فقط لكونها ملحمة وطنية، من أجل الحرية والاستقلال، وإنما لتجديد العهد على جعلها ثورة متواصلة، لتحقيق تطلعاتك المشروعة، وتعزيز مكانة المغرب، كفاعل وازن، في محيطه الجهوي والدولي.

فمنذ تولينا العرش، حرصنا على أن يكون التجاوب التلقائي بيني وبينك، عماد بناء مجتمع متقدم ومتماسك، يتسع لكل أبنائه، ويعتز كل مغربي ومغربية بالانتماء إليه.

فالوطن للجميع، ومن واجب كل المغاربة، فرادى وجماعات، أن يواصلوا انخراطهم، بعزم وثبات، في الدفاع عن وحدة بلدهم، والنهوض بتنميته.

والمغاربة شعب طموح يتطلع دائما لبلوغ أعلى الدرجات، التي وصلت إليها الدول المتقدمة. وهذا الطموح ليس مجرد حلم، ولا يأتي من فراغ، وإنما يستند إلى الواقع، وما حققه المغرب من منجزات ملموسة، في مساره الديمقراطي والتنموي.

فأين وصل المغرب اليوم وأين يمكن تصنيف الاقتصاد الوطني بين الدول وهل يمكن اعتباره بلدا تنافسيا أم يمكن وضعه ضمن الدول الصاعدة

معروف أنه ليس هناك نموذج محدد للدول الصاعدة. فكل بلد يواصل مساره التنموي الخاص، حسب موارده البشرية والاقتصادية والطبيعية، ورصيده الحضاري، وحسب العوائق والصعوبات التي تواجهه.

غير أن هناك معايير ومؤهلات ينبغي توفرها، للانضمام إلى هذه الفئة من الدول. وتتمثل، على الخصوص، في التطور الديمقراطي والمؤسسي، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والانفتاح الجهوي والدولي.

شعبي العزيز،

كما هو معلوم، لا يمكن لأي دولة أن تنتقل، بين عشية وضحاها، من مرتبة إلى أخرى، وإنما باستثمار التطورات الإيجابية التي راكمتها عبر تاريخها.

والمغرب نموذج لهذه التراكمات. فخلال 15 سنة الأخيرة، تمكن من ترسيخ مساره الديمقراطي، وتوطيد دعائم نموذج تنموي، مندمج ومستدام، يقوم على المزاوجة بين المشاريع الهيكلية، والنهوض بالتنمية البشرية والمستدامة.

لقد عرف الاقتصاد الوطني تحولا عميقا في بنيته، وتنوعا كبيرا في مجالاته الإنتاجية، وحقق نسبة نمو مرتفعة وقارة، وتمكن من الحفاظ على التوازنات الكبرى، رغم تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.

وفي هذا الإطار، مكنت الاستراتيجيات القطاعية من تحقيق نتائج ملموسة، ساهمت في وضوح الرؤية، وفي إعادة تموقع الاقتصاد الوطني، على الصعيد الجهوي والدولي.

وعلى سبيل المثال، فقد ساهم مخطط المغرب الأخضر ومخطط أليوتيس، في حصول المغرب على جائزة المنظمة العالمية للأغذية والزراعة، لبلوغه أهداف الألفية، المتعلقة بمحاربة الفقر والمجاعة، سنتين قبل الموعد المحدد لها.

وذلك لما يقومان عليه من توازن بين المشاريع الكبرى، ذات المردودية العالية، وبين تشجيع الفلاحة المعاشية والتضامنية، والصيد التقليدي، واعتبارا لدورهما في تحسين الدخل بصفة دائمة.

كما ساهم مخطط الإقلاع الصناعي، الذي يرتكز على مقاربة مندمجة، بما فيها توفير التكوين المهني المناسب، مدعوما بالنقلة النوعية، التي حققها القطاع التجاري والمالي، والاقتصاد الرقمي، في تعزيز مكانة الاقتصاد الوطني، على الصعيد القاري.

وإذا كانت البنيات التحتية من الدعائم الأساسية التي تقوم عليها الاقتصادات الصاعدة، فإن ما يتوفر عليه المغرب من منجزات، في هذا المجال، قد ساهم في الرفع من تنافسية المقاولات والمنتوجات الوطنية.

كما تعززت جاذبية الاقتصاد الوطني، بفضل الجهود المتواصلة، لتحسين مناخ الأعمال، وإحداث أقطاب اقتصادية تنافسية، كالقطب الصناعي ملوسة – طنجة.

وإننا لنعبر عن ارتياحنا للمساهمة الفاعلة لعدد من مقاولات القطاع الخاص، والمؤسسات العمومية، في النهوض بالاقتصاد الوطني على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ويعد المكتب الشريف للفوسفاط نموذجا في هذا المجال، لما يتوفر عليه من استراتيجية وطنية ودولية ناجعة، ووضوح الرؤية، وحسن التدبير والنجاعة. وهو ما أكد انخراط المغرب في السوق العالمي للفوسفاط، الذي أصبح رهانا كونيا، لارتباطه الوثيق بالأمن الغذائي.

ومن أهم الدعامات، التي تقوم عليها الاقتصادات الصاعدة، الارتكاز على التنمية المستدامة، والاستفادة من الفرص التي يتيحها الاقتصاد الأخضر.

فقد عرف مجال الطاقات المتجددة، نقلة نوعية، نتيجة المشاريع الكبرى التي أطلقناها، بالإضافة إلى اعتماد استراتيجية النجاعة الطاقية، وسياسة طموحة لتعبئة الموارد المائية.

ويعتبر المخطط المغربي للطاقة الشمسية والريحية، دليلا آخر على قدرتنا على رفع التحديات، وذلك بفضل الرؤية الواضحة والاستباقية، والتخطيط المحكم، للأسبقيات الملحة، بما يضمن تلبية الحاجيات الطاقية لبلادنا، وتقليص التبعية للخارج، بالاعتماد على استغلال إمكاناتنا من موارد الطاقات المتجددة.

وإذا كان المغرب يحتاج لبعض الجهود فقط، لمواصلة السير بخطى واثقة، للانضمام إلى الدول الصاعدة، فإن سياسة الانفتاح الاقتصادي قد عززت مكانته كمحور للمبادلات الدولية.

وهو ما تعكسه الشراكات المثمرة، سواء مع الدول العربية، وخاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي، أو مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، حيث يعد المغرب ثاني مستثمر بإفريقيا.

وذلك بالإضافة إلى الوضع المتقدم، الذي يربط المغرب بالاتحاد الأوروبي، واتفاقيات التبادل الحر مع عدد كبير من الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، والشراكة الاستراتيجية التي نعمل على تعميقها مع روسيا، إضافة إلى الشراكة التي نحن بصدد بلورتها مع الصين.

كما أن المغرب يعد صلة وصل أساسية في التعاون الثلاثي ومتعدد الأطراف، وخاصة من أجل ضمان الأمن والاستقرار، والتنمية بإفريقيا.

شعبي العزيز،

إن المكاسب والمنجزات التي تم تحقيقها، لا ينبغي أن تكون دافعا للارتياح الذاتي، بل يجب أن تشكل حافزا قويا على مضاعفة الجهود والتعبئة الدائمة.

فالاقتصاد المغربي إما أن يكون صاعدا، بفضل مؤهلاته، وتضافر جهود مكوناته. وإما أنه سيخلف موعده مع التاريخ.

لقد بلغ نموذجنا التنموي مرحلة من النضج، تجعله مؤهلا للدخول النهائي والمستحق ضمن الدول الصاعدة. إلا أن السنوات القادمة ستكون حاسمة لتحصين المكاسب، وتقويم الاختلالات، وتحفيز النمو والاستثمار.

فهل هذا النموذج قادر على التقدم وعلى رفع التحديات والعوائق التي تواجهه

إذا كانت الدول ترتكز، بالأساس، على تنافسية مقاولاتها، وخاصة تلك التي تصدر منتوجاتها للأسواق الدولية، فإن الاقتصاد المغربي يسجل، مع الأسف، تأخرا ملحوظا، بسبب تشتت وضعف النسيج الصناعي، ومنافسة القطاع غير المنظم.

إن هذا الوضع يتطلب تطوير مجموعات ومقاولات قوية، تعزز مناعة الاقتصاد الوطني، سواء لمواجهة المنافسة الدولية، أو من أجل تطوير شراكات مع المقاولات الصغرى، للنهوض بالتنمية، على المستوى الوطني.

ويعد توفير الموارد البشرية المؤهلة أساس الرفع من التنافسية، للاستجابة لمتطلبات التنمية، وسوق الشغل، ومواكبة التطور والتنوع، الذي يعرفه الاقتصاد الوطني.

وكما لا يخفى على أحد، فإن الحكامة الجيدة هي عماد نجاح أي إصلاح، والدعامة الأساسية لتحقيق أي استراتيجية لأهدافها.

فإلى أي حد يمكن لنظام الحكامة، في القطاعات الإنتاجية المغربية، أن يساهم في تأهيل وتطوير الاقتصاد الوطني

صحيح أن اللحاق بركب الدول الصاعدة لن يتم إلا بمواصلة تحسين مناخ الأعمال، ولاسيما من خلال المضي قدما في إصلاح القضاء والإدارة، ومحاربة الفساد، وتخليق الحياة العامة، التي نعتبرها مسؤولية المجتمع كله، مواطنين وجمعيات، وليست حكرا على الدولة لوحدها.

كما ينبغي أيضا تعزيز الدور الاستراتيجي للدولة، في الضبط والتنظيم، والإقدام على الإصلاحات الكبرى، لاسيما منها أنظمة التقاعد، والقطاع الضريبي، والسهر على مواصلة تطبيق مبادئ الحكامة الجيدة، في جميع القطاعات.

شعبي العزيز،

يتميز المسار التنموي لعدد من الدول الصاعدة بظهور أعراض سلبية، تتمثل في توسيع الفوارق بين الطبقات الاجتماعية.

لذا، فإننا حريصون على تلازم التنمية الاقتصادية، مع النهوض بأوضاع المواطن المغربي.

ذلك أننا لا نريد مغربا بسرعتين : أغنياء يستفيدون من ثمار النمو، ويزدادون غنى وفقراء خارج مسار التنمية، ويزدادون فقرا وحرمانا.

وفي هذا الإطار، تندرج برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي عبرت عدة دول عن رغبتها في الاستفادة من تجربتها، وكذا الجانب الاجتماعي للمخططات القطاعية، التي تعطي أهمية خاصة للتنمية المحلية والبشرية.

لقد أردنا أن نبين ونؤكد ما هو معروف عن المغاربة، من جد وتفان في العمل. وقد أثبتوا فعلا قدرتهم على العطاء والإبداع، كلما توفرت لهم الوسائل اللازمة، والظروف الملائمة، للقيام بأي عمل، كيفما كان نوعه، صغيرا أو كبيرا، فكريا أو يدويا، وذلك رغم آفة البطالة.

ويظل العنصر البشري هو الثروة الحقيقية للمغرب، وأحد المكونات الأساسية للرأسمال غير المادي، الذي دعونا، في خطاب العرش، لقياسه وتثمينه نظرا لمكانته في النهوض بكل الأوراش والإصلاحات، والانخراط في اقتصاد المعرفة.

وإن ما حققه المغرب من تقدم، ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج رؤية واضحة، واستراتيجيات مضبوطة، وجهود وتضحيات جميع المغاربة.

وفي هذا الإطار، نشيد بالحكومات المتعاقبة، إلى اليوم، وبروح الوطنية الصادقة، والمسؤولية العالية، التي أبانت عنها، خلال تدبير أمور البلاد.

ونود التنويه أيضا بالدور الهام للمقاولات المواطنة، في النهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

كما نشيد بالدور المتزايد لمنظمات المجتمع المدني، لمساهمتها الفعالة في دينامية التنمية.

ونخص بالتقدير والإشادة الأحزاب السياسية والنقابات الجادة، التي كرسها الدستور كفاعل أساسي لا محيد عنه، في الدولة والمجتمع، اعتبارا لرصيدها النضالي، ولما تتحلى به من وطنية صادقة، وروح المواطنة المسؤولة، في معالجة القضايا الكبرى للأمة.

كما نتقدم لكل المنظمات النقابية بعبارات الشكر، على دورها الكبير، في توطيد السلم الاجتماعي، بمفهومه الشامل، خلال 15 سنة الأخيرة، دون، بالطبع، التفريط في مبادئها الثابتة، دفاعا عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للطبقة العاملة.

لذا، فقد استجبنا للملتمس المرفوع إلينا، من قبل المنظمات النقابية، بخصوص تمثيليتها بمجلس المستشارين، الذي كان في الصيغة الأولى لمشروع الدستور الجديد، عبارة عن غرفة لممثلي الجماعات الترابية فقط.

كما أننا حريصون على مواصلة القيام بدورها المجتمعي والتنموي، في التزام بواجباتها الوطنية، في البناء والإصلاح، والسلم الاجتماعي، بقدر استفادتها مما يخوله لها القانون من حقوق.

ولا يفوتنا، أن نوجه تحية تقدير لنساء ورجال التعليم، وخاصة بالعالم القروي، على جهودهم من أجل تكوين أجيال من الأطر المؤهلة، التي ساهمت بنصيبها في النهوض بالأوراش التنموية، ولما يقدمونه من تضحيات في سبيل تربية الأجيال الصاعدة.

شعبي العزيز،

إن كسب رهان اللحاق بركب الدول الصاعدة ليس مستحيلا، وإن كان ينطوي على صعوبات وتحديات كثيرة.

والمغرب، ولله الحمد، يتوفر على جميع المؤهلات، لرفع هذه التحديات. وفي مقدمتها شبابه، الواعي والمسؤول.

ولنا اليقين، بأن شبابنا وشاباتنا قادرون، بما يتحلون به من روح الوطنية، ومن قيم المواطنة الإيجابية، ولما يتوفرون عليه، من عبقرية خلاقة، على النهوض بتنمية بلادهم، ورفع تحديات دخولها نادي الدول الصاعدة.

وبذلك نواصل جميعا حمل مشعل الثورة المتجددة للملك والشعب، في تلاحم وثيق بين مكونات الأمة، ووفاء دائم للأرواح الطاهرة، لكل من بطلها الخالد، جدنا المغفور له جلالة الملك محمد الخامس، ورفيقه في الكفاح، والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواهما، ولشهداء المقاومة والتحرير الأبرار.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته “.

نص الخطاب الملكي السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله إلى الأمة بمناسبة الذكرى 39 للمسيرة الخضراء - 06 نونبر 2014

” الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.

شعبي العزيز،

نخلد اليوم، ببالغ الاعتزاز، الذكرى التاسعة والثلاثين للمسيرة الخضراء.

وهي مناسبة للوقوف على ما عرفته أقاليمنا الجنوبية من تطور، وما طبع مسارها من شوائب، وما تواجهه من تحديات داخلية وخارجية.

لقد عرفت هذه المناطق العزيزة علينا، منذ استرجاعها، العديد من المنجزات في مختلف المجالات. غير أن الأوراش التي سنقدم عليها، إن شاء الله، خلال السنة المقبلة، تعتبر حاسمة، لمستقبل المنطقة. ويتعلق الأمر بتفعيل الجهوية المتقدمة والنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية.

فالجهوية التي نتطلع إليها، ليست مجرد نصوص قانونية، وتحويل اختصاصات وموارد، مادية وبشرية، من المركز إلى الجهات، وإنما نريدها أن تقوم على الغيرة الوطنية الصادقة، على الوحدة الترابية لبلادنا.

إننا نريد مناطق وجهات متضامنة ومتكاملة، غيورة على بعضها البعض.

فالمغاربة تلاقح حضاري أصيل، بين جميع مكونات الهوية المغربية. وهم عندنا سواسية. لا فرق بين الجبلي والريفي، والصحراوي والسوسي …

ومن هذا المنطلق، فإن البحث الأكاديمي في مكونات هويتنا، مفيد لترسيخ الوحدة الوطنية. أما النقاش الذي يقوم على التعصب، ويميل لزرع التفرقة، فلا يسمن ولا يغني من جوع.

ومن يدعي أنه لا ينتمي لهذا المزيج، فهو مخطئ. ومن يحاول إثبات عكس ذلك قد يفقد صوابه.

ومن هنا، فالجهوية التي نريدها، هي استثمار لهذا الغنى، والتنوع البشري والطبيعي، وترسيخ لهذا التمازج والتضامن والتكامل بين أبناء الوطن الواحد، وبين جميع مناطقه.

فالمغرب الموحد للجهات لا يعني أبدا، التعصب القبلي، ولن يكون عاملا للتفرقة والانفصال. لأنه أمر ممنوع، سواء في الدستور القديم، أو الجديد للمملكة.

شعبي العزيز،

لقد مرت أربعون سنة من التضحيات، من أجل استرجاع الأرض، وتحرير الإنسان، وتكريم المواطن المغربي بالصحراء، وكسب قلبه، وتعزيز ارتباطه بوطنه.

وإننا لنستحضر، بكل تقدير، جميع الذين قدموا حياتهم، في سبيل الدفاع عن الصحراء. فهناك أمهات وآباء من جميع أنحاء الوطن، فقدوا أبناءهم في الصحراء.

وهناك أرامل تحملن أعباء الحياة وحدهن، وأيتام لم يعرفوا حنان الأب، من أجل الصحراء. وهناك شباب فقدوا حريتهم، وعاشوا أسرى لسنوات طويلة، في سبيل الصحراء.

فالصحراء ليست قضية الصحراويين وحدهم. الصحراء قضية كل المغاربة. وكما قلت في خطاب سابق : الصحراء قضية وجود وليست مسألة حدود.

والمغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وإضافة إلى التضحية بأرواحهم، فقد قدم جميع المغاربة أشكالا أخرى من التضحيات، المادية والمعنوية، من أجل تنمية الأقاليم الجنوبية، وتقاسموا خيراتهم مع إخوانهم في الجنوب.

فالكل يعرف الوضع الذي كانت عليه الصحراء، قبل 1975. ولمن لا يعرف الحقيقة، أو يريد تجاهلها، أقدم بعض المعطيات:

فمنذ استرجاعها، مقابل كل درهم من مداخيل المنطقة، يستثمر المغرب في صحرائه 7 دراهم، في إطار التضامن بين الجهات وبين أبناء الوطن الواحد.

كما أن مؤشرات التنمية البشرية بالمنطقة، سنة 1975، كانت أقل ب6 بالمائة من جهات شمال المغرب، وب51 بالمائة مقارنة بإسبانيا.

أما اليوم، فهذه المؤشرات بالأقاليم الجنوبية، تفوق بكثير المعدل الوطني لباقي جهات المملكة. لهذا أقول، وبكل مسؤولية، كفى من الترويج المغلوط لاستغلال المغرب لثروات المنطقة.

فمن المعروف أن ما تنتجه الصحراء، لا يكفي حتى لسد الحاجيات الأساسية لسكانها. وأقولها بكل صراحة : المغاربة تحملوا تكاليف تنمية الأقاليم الجنوبية. لقد أعطوا من جيوبهم، ومن رزق أولادهم، ليعيش إخوانهم في الجنوب، في ظل الكرامة الإنسانية.

كما أن الكل يعرف أن المغرب حريص على استفادة سكان المنطقة من ثرواتها، في ظل تكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية.

صحيح أن نمط التدبير بالصحراء، عرف بعض الاختلالات، جعلتها، مع توالي السنوات، مجالا لاقتصاد الريع وللامتيازات المجانية.

وهو ما أدى إلى حالة من الاستياء لدى البعض، وتزايد الشعور بالغبن والإقصاء، لدى فئات من المواطنين.

إننا نعرف جيدا أن هناك من يخدم الوطن، بكل غيرة وصدق. كما أن هناك من يريد وضع الوطن في خدمة مصالحه.

هؤلاء الذين جعلوا من الابتزاز مذهبا راسخا، ومن الريع والامتيازات حقا ثابتا، ومن المتاجرة بالقضية الوطنية، مطية لتحقيق مصالح ذاتية. كما نعرف أن هناك من يضعون رجلا في الوطن، إذا استفادوا من خيراته، ورجلا مع أعدائه إذا لم يستفيدوا.

وهنا أقول: كفى من سياسة الريع والامتيازات. وكفى من الاسترزاق بالوطن.

غير أنه لا يجب تضخيم الأمر. فهؤلاء الانتهازيون قلة ليس لهم أي مكان بين المغاربة. ولن يؤثروا على تشبث الصحراويين بوطنهم.

لذا، وإنصافا لكل أبناء الصحراء، وللأغلبية الصامتة التي تؤمن بوحدة الوطن، دعونا لإعادة النظر جذريا في نمط الحكامة بأقاليمنا الجنوبية.

وفي هذا الإطار، يندرج قرارنا بتفعيل الجهوية المتقدمة، والنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية. غايتنا إجراء قطيعة مع نمط التدبير السابق، وتمكين أبناء المنطقة من المشاركة في تدبير شؤونهم المحلية، في ظل الشفافية والمسؤولية، وتكافؤ الفرص.

ولهذه الغاية ندعو لفتح حوار وطني صريح، ومناقشة مختلف الأفكار والتصورات، بكل مسؤولية والتزام، من أجل بلورة إجابات واضحة، لكل القضايا والانشغالات، التي تهم ساكنة المنطقة، وذلك في إطار الوحدة الوطنية والترابية للبلاد.

كما ندعو القطاع الخاص، للانخراط أكثر في تنمية الأقاليم الجنوبية.

شعبي العزيز،

إن التزامنا بتوفير شروط العيش الكريم لمواطنينا، لا يعادله إلا حرصنا على ضمان الأمن العام، وسلامة المواطنين، في إطار دولة الحق والقانون.

ومن هنا، فإن المغرب يرفض كل الممارسات، التي تستهدف المس بأمنه واستقراره. وسيتصدى لها بكل حزم ومسؤولية، في إطار القانون، وتحت سلطة القضاء.

فمتى كان ترهيب المواطنين، وتخريب ممتلكاتهم، التي اكتسبوها بجهدهم وعرق جبينهم، حقا من حقوق الإنسان ؟

ومتى كان الإخلال بالأمن العام، وتدمير الممتلكات العمومية، يدخل في إطار ممارسة الحقوق والحريات ؟.

لقد سبق لنا في خطاب المسيرة سنة 2009، أن عبرنا عن رفضنا القاطع لهذه الممارسات، ونبهنا إلى أن “أي شخص إما أن يكون وطنيا أو خائنا. فليس هناك مرتبة وسطى بين الوطنية والخيانة”.

كما أنه ليس هناك درجات في الوطنية، ولا في الخيانة. فإما أن يكون الشخص وطنيا، وإما أن يكون خائنا.

صحيح أن الوطن غفور رحيم، وسيظل كذلك. ولكن مرة واحدة، لمن تاب ورجع إلى الصواب. أما من يتمادى في خيانة الوطن، فإن جميع القوانين الوطنية والدولية، تعتبر التآمر مع العدو خيانة عظمى.

إننا نعرف أن الإنسان يمكن أن يخطئ، ولكن الخيانة لا تغتفر. والمغرب لن يكون أبدا، مصنعا “لشهداء الخيانة”.

أما الشهداء الحقيقيون، هم الذين وهبوا أرواحهم في سبيل حرية واستقلال الوطن، والذين استشهدوا دفاعا عن سيادته ووحدته.

لهذا أقول: كفى من المزايدات على المغرب. وكفى من استغلال فضاء الحقوق والحريات، التي يوفرها الوطن، للتآمر عليه.

إن المغرب يتوفر على آلياته ومؤسساته الخاصة، المشهود لها دوليا بالالتزام والمصداقية، لمعالجة كل القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان.

والمغرب هو البلد الوحيد بالمنطقة، الذي يتعاون مع الآليات الخاصة للمجلس الأممي لحقوق الإنسان.

كما أنه مستعد للانفتاح أكثر على مختلف الهيئات والمنظمات الحقوقية الدولية، التي تعتمد الحياد والموضوعية، في التعامل مع قضاياه.

والمغرب يرفض سياسة تبخيس مبادراته، وتضخيم الأحداث التي تقع بالأقاليم الجنوبية، مقابل الصمت والتواطؤ، تجاه ما يقع في تندوف، وفي بلدان الجوار.

شعبي العزيز،

إن المغرب عندما فتح باب التفاوض، من أجل إيجاد حل نهائي للنزاع المفتعل حول صحرائه، فإن ذلك لم يكن قطعا، ولن يكون أبدا حول سيادته ووحدته الترابية.

فقد سبق لي أن تفاوضت مع بعض المغاربة من تندوف، لما كنت وليا للعهد. وليس عندي في ذلك أي مشكل. لأنني كنت أفاوض مواطنين مغاربة، ولأن الأمر يتعلق بالدفاع عن حقوق المغرب.

فالمغرب ليس لديه أي عقدة، لا في التفاوض المباشر، ولا عن طريق الوساطة الأممية مع أي كان. ولكن يجب التأكيد هنا، على أن سيادة المغرب، على كامل أراضيه ثابتة، وغير قابلة للتصرف أو المساومة.

غير أن اختيار المغرب للتعاون، مع جميع الأطراف، بصدق وحسن نية، لا ينبغي فهمه على أنه ضعف، أو اتخاذه كدافع لطلب المزيد من التنازلات.

فمبادرة الحكم الذاتي، هي أقصى ما يمكن أن يقدمه المغرب، في إطار التفاوض، من أجل إيجاد حل نهائي، لهذا النزاع الإقليمي.

وبصفتي الضامن لاستقلال البلاد، ولوحدتها الترابية، فإن من واجبي تحديد المفاهيم والمسؤوليات، في التعامل مع الأمم المتحدة، والتعبير عن رفض المغرب للمغالطات والانزلاقات، التي تعرفها هذه القضية.

وتأكيدا لموقف المغرب بهذا الشأن، أقول:

– لا لمحاولة تغيير طبيعة هذا النزاع الجهوي، وتقديمه على أنه مسألة تصفية الاستعمار. فالمغرب في صحرائه، لم يكن أبدا قوة محتلة، أو سلطة إدارية. بل يمارس صلاحياته السيادية على أرضه.

– لا لأي محاولة لمراجعة مبادئ ومعايير التفاوض، ولأي محاولة لإعادة النظر، في مهام المينورسو أو توسيعها، بما في ذلك مسألة مراقبة حقوق الإنسان.

– لا لمحاباة الطرف الحقيقي في هذا النزاع، وتمليصه من مسؤولياته.

– لا لمحاولة التوازي بين دولة عضو في الأمم المتحدة، وحركة انفصالية. ولا لإعطاء الشرعية لحالة انعدام القانون بتندوف.

فسيادة المغرب لا يمكن أن تكون رهينة، لأفكار إيديولوجية، وتوجهات نمطية لبعض الموظفين الدوليين. وأي انزلاقات أو مغالطات، سترهن عمل الأمم المتحدة في هذه القضية.

وبالمقابل، فالمغرب مستعد للتعاون مع كل الأطراف، للبحث عن حل يحترم سيادته، ويحفظ ماء وجه الجميع، ويساهم في ترسيخ الأمن والاستقرار بالمنطقة، وتحقيق الاندماج المغاربي.

وإننا نعبر عن تقديرنا للأمين العام للأمم المتحدة، وللقوى الدولية الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسها البيت الأبيض، لمساهمتها الإيجابية، في مختلف المراحل، لإيجاد حل لهذه القضية.

وإذ نثمن دعمهم للجهود التي يبذلها المغرب، وللمسار التفاوضي، على أساس مبادرة الحكم الذاتي، فإننا نطالب، اليوم، بموقف واضح من هذا النزاع.

ففي الوقت الذي يؤكدون أن المغرب نموذج للتطور الديمقراطي، وبلد فاعل في ضمان الأمن والاستقرار بالمنطقة، وشريك في محاربة الإرهاب؛ فإنهم في المقابل، يتعاملون بنوع من الغموض، مع قضية وحدته الترابية.

فدون تحميل المسؤولية للجزائر، الطرف الرئيسي في هذا النزاع، لن يكون هناك حل. وبدون منظور مسؤول للواقع الأمني المتوتر بالمنطقة، لن يكون هناك استقرار.

غير أن هذا لا يعني الإساءة للجزائر، أو لقيادتها، أو شعبها، الذي نكن له كل التقدير والاحترام. فكلامنا موزون، ومعناه واضح. وإنما نتحدث عن الواقع والحقيقة، التي يعرفها الجميع.

هذه الحقيقة التي كلما قالها المغاربة، يتم اتهام الحكومة والأحزاب والصحافة المغربية، بمهاجمة الجزائر.

وإذا كان المغرب ليس لديه لا بترول ولا غاز، بينما الطرف الآخر لديه ورقة خضراء، يعتقد أنها تفتح له الطريق ضد الحق والمشروعية، فإن لدينا مبادئنا، وعدالة قضيتنا. بل لدينا أكثر من ذلك : حب المغاربة وتشبثهم بوطنهم.

فمخطئ من يعتقد أن تدبير قضية الصحراء، سيتم عبر تقارير تقنية مخدومة، أو توصيات غامضة، تقوم على محاولة التوفيق بين مطالب جميع الأطراف.

ومخطئ أيضا من يحاول مقارنة الصحراء بتيمور الشرقية أو ببعض النزاعات الترابية بأوروبا الشرقية. لأن لكل قضية خصوصياتها. فارتباط سكان الصحراء بالمغرب، ليس وليد اليوم، بل تمتد جذوره في أعماق التاريخ.

شعبي العزيز،

إننا مؤمنون بعدالة قضيتنا، وبانتصار الحق والمشروعية، على نزوعات الانفصال.

وإننا نتطلع، بكل أمل وتفاؤل، لجمع الشمل بين أبناء الصحراء، في وطنهم؛ واثقين من انخراطهم في مسيرات جديدة، للنهوض بالتنمية، وتوفير العيش الحر الكريم لكافة المواطنين، أينما كانوا.

وذلك خير وفاء لروح مبدع المسيرة، والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، ولأرواح شهداء الوطن الأبرار.

كما نوجه تحية تقدير لقواتنا المسلحة الملكية، بكل مكوناتها، ولقوات الأمن، على تجندها الدائم، من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار، والدفاع عن حوزة الوطن.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته “.

نص الخطاب السامي لصاحب الجلالة بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية التاسعة بمقر البرلمان - 09 أكتوبر 2015

“الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه،

السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

يسعدنا أن نفتتح السنة الخامسة من هذه الولاية التشريعية. وهي مناسبة سنوية لمخاطبة ممثلي الأمة حول مختلف القضايا الوطنية.

وتكتسي هذه السنة التشريعية أهمية خاصة لأنها السنة الأخيرة في الولاية الحالية، بما تقتضيه من ضرورة استكمال إقامة المؤسسات الدستورية.

كما تأتي بعد أول انتخابات محلية وجهوية، في ظل الدستور الجديد، وبعد إقامة مجلس المستشارين في صيغته الجديدة.

ونود هنا أن نقدم التهاني لأعضاء مجلس المستشارين ولرؤساء المجالس الجهوية والمحلية وكافة المنتخبين، على الثقة التي حظوا بها، داعين الله تعالى لكم جميعا بالتوفيق والسداد في مهامكم.

ولكن لا يجب أن نعتبر أن الأمر قد انتهى. إن الانتخابات ليست غاية في ذاتها، وإنما هي البداية الحقيقية لمسار طويل ينطلق من إقامة المؤسسات وإضفاء الشرعية عليها.

بل أكثر من ذلك، فإن تمثيل المواطنين أمانة عظمى على المنتخبين والأحزاب أداءها، سواء بالوفاء بوعودهم تجاه الناخبين أو من خلال العمل على الاستجابة لانشغالاتهم الملحة.

وهي مسؤولية وطنية تقتضي من الجميع الارتفاع إلى مستوى اللحظة التاريخية التي تعيشها بلادنا.

فليس أمامنا إلا خيار واحد هو إقامة مؤسسات جهوية ناجعة حتى لا يخلف المغرب هذا الموعد الهام مع التاريخ.

غير أن ما ينبغي الانتباه إليه، أن الحياة السياسية لا ينبغي أن ترتكز على الأشخاص، وإنما يجب أن تقوم على المؤسسات. فالأشخاص كيفما كانوا فهم راحلون، أما المؤسسات فهي دائمة. وهي الضمانة الحقيقية لحقوق المواطنين، وللخدمات التي يحتاجون إليها، والتي لا نقبل أن تكون رهينة أهواء الأشخاص ورغباتهم.

حضرات السيدات والسادة البرلمانيين،

لقد قال المواطنون كلمتهم، ولكني أريد من هذا المنبر أن أوجه رسالة للذين لم يتوفقوا في هذه الانتخابات، فعليهم ألا يفقدوا الأمل، وأن يرفعوا رؤوسهم لما قدموه من خدمات للوطن والمواطنين، وعليهم أن ينتبهوا إلى أن المغاربة أصبحوا أكثر نضجا في التعامل مع الانتخابات، وأكثر صرامة في محاسبة المنتخبين على حصيلة عملهم.

كما يجب عليهم القيام بالنقد الذاتي البناء، لتصحيح الأخطاء وتقويم الاختلالات، ومواصلة العمل الجاد، من الآن، ودون كلل أو ملل، من أجل كسب ثقة الناخبين في الاستحقاقات القادمة.

وهذا هو حال الديمقراطية الحقة، فهي تداول وتناوب على ممارسة السلطة، وتدبير الشأن العام، فمن لم يفز اليوم قد يكون هو الرابح غدا.

غير أننا نرفض البكاء على الأطلال، كما نرفض الاتهامات الباطلة الموجهة للسلطات المختصة بتنظيم الانتخابات. فالضمانات التي تم توفيرها تضاهي مثيلاتها في أكبر الديمقراطيات عبر العالم، بل إنها لا توجد إلا في قليل من الدول.

وبطبيعة الحال فإن من يعتبر نفسه مظلوما، بسبب بعض التجاوزات المعزولة التي تعرفها عادة الممارسة الديمقراطية، فيبقى أمامه اللجوء إلى القضاء.

حضرات السيدات والسادة البرلمانيين.

لقد سجلنا، ببالغ الاعتزاز، المشاركة المكثفة لسكان أقاليمنا الجنوبية، في الانتخابات الأخيرة، وهو دليل ديمقراطي آخر، على تشبث أبناء الصحراء بالوحدة الترابية، وبالنظام السياسي لبلادهم، وحرصهم على الانخراط الفعال في المؤسسات الوطنية.

وهنا نؤكد، أن الشرعية الشعبية والديمقراطية التي اكتسبها المنتخبون، الذين تم اختيارهم بكل حرية، تجعل منهم الممثلين الحقيقيين لسكان الصحراء المغربية، وليس أقلية تقيم خارج الوطن وتحاول واهمة، تنصيب نفسها، دون أي سند، كممثل لهم.

حضرات السيدات والسادة البرلمانيين،

لقد أعطى الدستور لمجلس المستشارين مكانة خاصة في البناء المؤسسي الوطني، في إطار من التكامل والتوازن مع مجلس النواب. فهو يتميز بتركيبة متنوعة ومتعددة التخصصات، حيث يضم مجموعة من الخبرات والكفاءات، المحلية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية. لذا، يجب أن يشكل فضاء للنقاش البناء، وللخبرة والرزانة والموضوعية، بعيدا عن أي اعتبارات سياسية.

كما ينبغي استثمار التكامل بين مجلسي البرلمان للرفع من مستوى أدائه ومن جودة التشريعات التي يصادق عليها.

ورغم كل الجهود المبذولة، فإن الصورة التي تبقى في ذهن عدد من المواطنين، هي الصراعات والمزايدات بين الاغلبية والمعارضة، داخل البرلمان أحيانا، وفي بعض التجمعات الحزبية وحتى في وسائل الإعلام.

وقد سبق لي أن قلت لكم، من هذا المنبر، بأن الخطاب السياسي لا يرقى دائما إلى مستوى ما يتطلع إليه المواطن. وهنا انبه إلى أن التوجه نحو الصراعات الهامشية يكون دائما على حساب القضايا الملحة والانشغالات الحقيقية للمواطنين، وهو ما يؤدي إلى عدم الرضى الشعبي على العمل السياسي بصفة عامة، ويجعل المواطن لا يهتم بالدور الحقيقي للبرلمان.

فالبرلمان يجب أن يكون مرآة تعكس انشغالات المواطنين، وفضاء للحوار الجاد والمسؤول، حول كل القضايا الوطنية الكبرى.

حضرات السيدات والسادة البرلمانيين

إن ما ينتظركم من عمل، خلال هذه السنة، لاستكمال إقامة المؤسسات، لا يستحمل إضاعة الوقت في الصراعات الهامشية.

فمشاريع النصوص القانونية التي ستعرض عليكم شديدة الاهمية والحساسية. لذا ارتأينا أن نذكر الحكومة والبرلمان بضرورة الالتزام بأحكام الفصل 86 من الدستور، الذي يحدد نهاية هذه الولاية التشريعية كآخر أجل لعرض القوانين التنظيمية على مصادقة البرلمان.

ونذكر هنا، على سبيل المثال، مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بتفعيل الطابع الرسمي للغة الامازيغية، والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وممارسة حق الإضراب ومجلس الوصاية.

فهذه القضايا الوطنية الكبرى تتطلب منكم جميعا، أغلبية ومعارضة، حكومة وبرلمانا، تغليب روح التوافق الإيجابي والابتعاد عن المزايدات السياسية.

ففي ما يخص مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية لتقوم مستقبلا بوظيفتها، يجب استحضار أن العربية والامازيغية ، كانتا دائما عنصر وحدة، ولن تكونا أبدا سببا للصراع أو الانقسام.

أما المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، فإن الامر يتعلق بإقامة مجلس يضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات وليس وضع هيكل عام لمؤسسات مستقلة.

كما أن بلورة مشروع القانون التنظيمي للإضراب، يقتضي إجراء استشارات واسعة، والتحلي بروح التوافق البناء، بما يضمن حقوق الفئة العاملة، ومصالح أرباب العمل، ومصلحة الوطن.

أما في ما يخص النصوص المعروضة على البرلمان، فإننا ندعو للإسراع بالمصادقة على مشاريع القوانين التنظيمية الخاصة بالسلطة القضائية، إضافة إلى مشروع قانون هيأة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.

حضرات السيدات والسادة البرلمانيين،

إن ما يهمنا ليس فقط المصادقة على القوانين ونشرها في الجريدة الرسمية، وإنما أيضا تفعيل هذه التشريعات وتنصيب المؤسسات.

فمكانة المؤسسات تقاس بمدى قيامها بمهامها وخدمتها لمصالح المواطنين.

وفي هذا الإطار، نجدد الدعوة للإسراع بانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية الذين يخول الدستور صلاحية تعيينهم لمجلسي البرلمان حتى يتسنى تنصيبها في أقرب الآجال. وهو ما سبق أن دعونا إليه في خطاب السنة الماضية.

كما يتعين تفعيل النصوص القانونية المتعلقة بمجلس المنافسة والهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة.

ويبقى السؤال المطروح: لماذا لم يتم تحيين قوانين عدد من المؤسسات، رغم مرور أربع سنوات على إقرار الدستور؟ وماذا ننتظر لإقامة المؤسسات الجديدة التي أحدثها الدستور؟

ونخص بالذكر بعض المؤسسات الحقوقية والرقابية، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي.

السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين،

إن السنة التشريعية التي نفتتحها اليوم، حافلة بالتحديات، وتتطلب العمل الجاد والتحلي بروح الوطنية الصادقة لاستكمال إقامة المؤسسات الوطنية.

لأن المؤسسات لا تهم الأغلبية وحدها أو المعارضة، وإنما هي مؤسسات يجب أن تكون في خدمة المواطنين دون أي اعتبارات أخرى.

لذا، ندعو لاعتماد التوافق الإيجابي، في كل القضايا الكبرى للأمة. غير أننا نرفض التوافقات السلبية التي تحاول إرضاء الرغبات الشخصية والأغراض الفئوية على حساب مصالح الوطن والمواطنين، فالوطن يجب أن يظل فوق الجميع.

فكونوا، رعاكم الله، في مستوى الأمانة الملقاة على عاتقكم، لما فيه خير وطننا العزيز.

“إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتيكم خيرا”. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

نص الخطاب السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس الى الامة بمناسبة الذكرى 17 لعيد العرش المجيد - 30 يوليوز 2016

“الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا

رسول الله وآله وصحبه،

شعبي العزيز،

تتوالى السنوات، بعون الله وتوفيقه، منذ أن تحملنا أمانة قيادتك. وهي أمانة جليلة بشرف خدمتك، وجسيمة بما تنطوي عليه من مسؤوليات أمام الله، وأمام التاريخ، وعظيمة بما تحمله من التزامات تجاه جميع المغاربة.

ونحتفل اليوم بالذكرى السابعة عشرة، لعيد العرش المجيد، ونحن أكثر اعتزازا بما يجمعنا من روابط البيعة الوثقى، والتلاحم المتين، وأقوى عزما على مواصلة العمل من أجل تحقيق تطلعاتك المشروعة.

فما أريده لكل المغاربة أينما كانوا في القرى والمدن، وفي المناطق المعزولة والبعيدة، هو تمكينهم من العيش الكريم في الحاضر، وراحة البال والاطمئنان على المستقبل، والأمن والاستقرار على الدوام، في تلازم بين التمتع بالحقوق، وأداء الواجبات.

شعبي العزيز،

لقد تمكنا خلال السبعة عشرة سنة الماضية من إنجاز إصلاحات سياسية عميقة وأوراش اقتصادية كبرى و مشاريع للتنمية البشرية غيرت وجه المغرب.

غير أن هناك الكثير مما يجب القيام به خاصة ونحن على أبواب مرحلة جديد ة ستنطلق مع الانتخابات التشريعية المقبلة.

وبصفتي الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، فإنني لا أشارك في أي انتخاب، ولا أنتمي لأي حزب. فأنا ملك لجميع المغاربة مرشحين، وناخبين، وكذلك الذين لا يصوتون .

كما أنني ملك لكل الهيآت السياسية دون تمييز أو استثناء. وكما قلت في خطاب سابق ، فالحزب الوحيد الذي أعتز بالانتماء إليه هو المغرب .

ومن تم، فشخص الملك، يحظى بمكانة خاصة في نظامنا السياسي. وعلى جميع الفاعلين مرشحين وأحزابا تفادي استخدامه في أي صراعات انتخابية أو حزبية .

إننا أمام منا سبة فاصلة لإعادة الأمور إلى نصابها: من مرحلة كانت فيها الأحزاب تجعل من الانتخاب آلية للوصول لممارسة السلطة، إلى مر حلة تكون فيها الكلمة للمواطن، الذي عليه أن يتحمل مسؤوليته، في اختيار ومحا سبة المنتخبين.

فالمواطن هو الأهم في العملية الانتخابية وليس الأحزاب والمرشحين. وهو مصدر السلطة التي يفوضها لهم. وله أيضا سلطة محا سبتهم أو تغييرهم، بناء على ما قدموه خلال مدة انتدابهم.

لذا أوجه النداء لكل الناخبين، بضرورة تحكيم ضمائرهم، واستحضار مصلحة الوطن والمواطنين، خلال عملية التصويت بعيدا عن أي اعتبارات كيفما كان نوعها.

كما أدعو الأحزاب لتقديم مرشحين، تتوفر فيهم شروط الكفاءة والنزاهة، وروح المسؤولية والحرص على خدمة المواطن.

فأحزاب الأغلبية مطالبة بالدفاع عن حصيلة عملها خلال ممارستها للسلطة في حين يجب على أحزاب المعارضة تقديم النقد البناء واقتراح البدائل المعقولة في إطار تنافس مسؤول من أجل إيجاد حلول ملموسة، للقضايا والمشاكل الحقيقية للمواطنين.

ومن جانبها فإن الإدارة التي تشرف على الانتخابات تحت سلطة رئيس الحكومة، ومسؤولية وزير الداخلية ووزير العدل والحريات، مدعوة للقيام بواجبها، في ضما ن نزاهة وشفافية المسا ر الانتخابي.

وفي حالة وقوع بعض التجاوزات، كما هو الحال في أي انتخابات، فإن معالجتها يجب أن تتم طبقا للقانون، من طرف المؤسسات القضائية المختصة .

غير أن ما يبعث على الاستغراب، أن البعض يقوم بممارسات تتنافى مع مبادئ وأخلاقيات العمل السياسي، ويطلق تصريحات ومفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات، في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين.

ولا يفوتني هنا أيضا، أن أنبه لبعض التصرفات والتجاوزات الخطيرة، التي تعرفها فترة الانتخابات، والتي يتعين محاربتها، ومعاقبة مرتكبيها.

فبمجرد اقتراب موعد الانتخابات، وكأنها القيامة، لا أحد يعرف الآخر. والجميع حكومة وأحزابا، مرشحين وناخبين، يفقدون صوابهم، ويدخلون في فوضى وصراعات، لا علاقة لها بحرية الاختيار، التي يمثلها الانتخاب.

وهنا أقول للجميع، أغلبية ومعارضة: كفى من الركوب على الوطن، لتصفية حسابات شخصية، أو لتحقيق أغراض حزبية ضيقة.

شعبي العزيز،

إن تمثيل المواطنين في مختلف المؤسسات والهيآت، أمانة جسيمة. فهي تتطلب الصدق والمسؤولية، والحرص على خدمة المواطن، وجعلها فوق أي اعتبار.

وكما أكدنا ذلك عدة مرات، فإن القيام بالمسؤولية، يتطلب من الجميع الالتزام بالمفهوم الجديد للسلطة، الذي أطلقناه منذ أن تولينا العرش.

ومفهومنا للسلطة هو مذهب في الحكم، لا يقتصر، كما يعتقد البعض، على الولاة والعمال والإدارة الترابية. وإنما يهم كل من له سلطة، سواء كان منتخبا، أو يمارس مسؤولية عمومية، كيفما كان نوعها.

والمفهوم الجديد للسلطة يعني المساءلة والمحاسبة، التي تتم عبر آليات الضبط والمراقبة، وتطبيق القانون. وبالنسبة للمنتخبين فإن ذلك يتم أيضا، عن طريق الانتخاب، وكسب ثقة المواطنين.

كما أن مفهومنا للسلطة يقوم على محاربة الفساد بكل أشكاله: في الانتخابات والإدارة والقضاء، وغيرها. وعدم القيام بالواجب، هو نوع من أنواع الفساد.

والفساد ليس قدرا محتوما. ولم يكن يوما من طبع المغاربة. غير أنه تم تمييع استعمال مفهوم الفساد، حتى أصبح وكأنه شيء عادي في المجتمع.

والواقع أنه لا يوجد أي أحد معصو م منه، سوى الأنبياء والرسل والملائكة.

وهنا يجب التأكيد أن محاربة الفساد لا ينبغي أن تكون موضوع مزايدات.

ولا أحد يستطيع ذلك بمفرده، سواء كان شخصا، أو حزبا، أو منظمة جمعوية. بل أ كثر من ذلك، ليس من حق أي أحد تغيير الفساد أو المنكر بيده، خارج إطار القانون.

فمحاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيد ي المفسدين.

والمجتمع بكل مكوناته، من خلال رفضها، وفضح ممارسيها، والتربية على الابتعاد عنها، مع استحضار مبادئ ديننا الحنيف، والقيم المغربية الأصيلة، القائمة على العفة والنزاهة والكرامة.

شعبي العزيز،

إننا نؤمن بأن التقدم السياسي، مهما بلغ من تطور، فإنه سيظل ناقص الجدوى، ما لم تتم مواكبته بالنهوض بالتنمية.

وتقوم التنمية في منظورنا، على التكامل والتوازن، بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

كما أن رفع التحديات التنموية المتعددة والمتداخلة، يتطلب من جميع المغاربة، فرديا وجماعيا، الانخراط في المعركة الاقتصادية الحاسمة، التي يعيشها العالم.

فالتقدم الذي نطمح إليه ببلادنا، لا يقتصر فقط على مجرد مؤشرا ت، غالبا ما تتجاهل مسار كل بلد وخصوصياته؛ وإنما نريده أن يشكل تحولا اقتصاديا واجتماعيا حقيقيا، تشمل ثماره جميع المواطنين.

وإذا كان من حقنا أن نعتز بما حققناه من مكاسب تنموية، فإن على جميع الفاعلين، في القطاعين العام والخاص، مضاعفة الجهود، من أجل الارتقاء بالمغرب إلى مرتبة جديدة من التقدم، بين الدول الصاعدة، والتي سبق لنا أن حددنا مقو ماتها.

وهو ما يقتضي العمل الجاد للرفع من تنا فسية الاقتصاد الوطني، والتقييم الموضوعي للسياسات العمومية، والتحيين المستمر للاستراتيجيات القطاعية والاجتماعية.

ورغم الإكراهات المرتبطة أحيانا بالسياق الدولي، وأحيانا أخرى بالاقتصاد الوطني، فإن المغرب، والحمد لله، في تقدم مستمر، دون نفط ولا غاز، وإنما بسواعد وعمل أبنائه.

وخير دليل على ذلك، تزايد عدد الشركات الدولية، ك “بوجو” مثلا، والشركات الصينية التي ستقوم بإنجاز المشروع الاستراتيجي للمنطقة الصناعية بطنجة، على مساحة تتراوح بين 1000 و2000 هكتار، وكذا الشركات الروسية وغيرها، التي قررت الاستثمار في المغرب، وتصرف الملايين على مشاريعها.

هذه الشركات لا يمكن أن تخاطر بأموالها دون أن تتأكد أنها تضعها في المكان الصحيح. بل إنها تعرف وتقدر الأمن والاستقرار، الذي ينعم به المغرب، والآفاق المفتوحة أمام استثماراتها.

كما أن العديد من الشركات العالمية، عبرت عن اهتمامها بالاستثمار في مشروع ” نور – ورزازات”، الذي يعد أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم.

كما يتزايد عدد الأجانب، الذين يختارون المغرب للإقامة والاستقرار، وخاصة من فرنسا وإسبانيا. ومنهم من يقوم بإحداث شركات خاصة.

فهؤلاء الأجانب يعيشون في أمن واطمئنان، في ظل حماية أمير المؤمنين، وتحت مسؤولية الدولة المغربية، إضافة إلى أن المغاربة يعاملونهم بكل ترحيب وتقدير.

وبنفس الإرادة والعزم، نعمل على ضمان أمن المغاربة وسلامتهم، وعلى صيانة استقرار البلاد، والحفاظ على النظام العام.

شعبي العزيز،

إن صيانة الأمن مسؤولية كبيرة، لاحد لها، لا في الزمان، ولا في المكان. وهي أمانة عظمى في أعناقنا جميعا.

وأود هنا، أن أعبر لمختلف المصالح الأمنية، عن تقديرنا للجهود الدؤوبة، والتضحيات الجسيمة، التي يقدمونها في القيام بواجبهم الوطني.

كما أشيد بالفعالية، التي تميز عملها، في استباق وإفشال المحاولات الإرهابية، التي تحاول يائسة ترويع المواطنين، والمس بالأمن والنظام العام.

وإننا نقدر الظروف الصعبة، التي يعمل فيها نساء ورجال الأمن، بسبب قلة الإمكانات. فهم يعملون ليلا ونهارا، ويعيشون ضغوطا كبيرة، ويعرضون أنفسهم للخطر، أثناء القيام بمهامهم.

لذا، ندعو الحكومة لتمكين الإدارة الأمنية، من الموارد البشرية والمادية اللازمة لأداء مهامها، على الوجه المطلوب.

كما يتعين مواصلة تخليق الإدارة الأمنية، وتطهيرها من كل ما من شأنه أن يسيء لسمعتها، وللجهود الكبيرة، التي يبذلها أفرادها، في خدمة المواطنين.

إن مصداقية العمليات الأمنية، تقتضي الحزم والصرامة في التعامل مع المجرمين، ومع دعاة التطرف والإرهاب، وذلك في إطار الالتزام بالقانون، واحترام الحقوق والحريات، تحت مراقبة القضاء.

وأمام تزايد التحديات الأمنية، والمؤامرات التي تحاك ضد بلادنا، أدعو لمواصلة التعبئة واليقظة.

كما أؤكد على ضرورة التنسيق بين المصالح الأمنية، الداخلية والخارجية، ومع القوات المسلحة الملكية، بكل مكوناتها، ومع المواطنين. فالكل مسؤول عندما يتعلق الأمر بقضايا الوطن.

فأمن المغرب واجب وطني، لا يقبل الاستثناء، ولا ينبغي أن يكون موضع صراعات فارغة، أو تهاون أو تساهل في أداء الواجب. وإنما يقتضي التنافس الإيجابي، في صيانة وحدة الوطن، وأمنه واستقراره.

فليس من العيب أن تكون الدولة قوية برجالها وأمنها، وأن يكون المغاربة جنودا مجندين للدفاع عن قضايا وطنهم.

أما على المستوى الخارجي، فإن التنسيق والتعاون، الذي تعتمده المصالح الأمنية ببلادنا، مع نظيراتها في عدد من الدول الشقيقة والصديقة، قد ساهم في إفشال العديد من العمليات الإرهابية، وتجنيب هذه الدول مآسي إنسانية كبيرة.

شعبي العزيز،

إن انشغالنا بقضايا المواطنين داخل المغرب، لا يعاد له إلا العناية التي نوليها، لشؤون أفراد الجالية المقيمة بالخارج.

فنحن نقدر مساهمتهم في تنمية بلدهم، وفي الدفاع عن مصالحه العليا.

كما نعتز بارتباطهم بوطنهم، وبتزايد عدد الذين يحرصون، كل سنة، على صلة الرحم بأهلهم، رغم ما يتحملونه من تعب ومشاق السفر، وما يواجهونه من صعوبات.

وإذا كنا نعيد ونؤكد، كل مرة، وفي كل مناسبة، شكرنا لهم، وعلى ضرورة الاهتمام بقضاياهم، سواء داخل الوطن، أو في بلدان الإقامة، فنحن لا نبالغ في ذلك، لأنهم في الواقع، يستحقون ذلك وأكثر.

وقد سبق أن شددنا على ضرورة تحسين الخدمات، المقدمة لهم. ووقفنا على بعض النماذج، التي تم اعتمادها لهذا الغرض.

ورغم الإصلاحات والتدابير، التي تم اتخاذها، إلا أنها تبقى غير كافية. وهو ما يقتضي جدية أكبر، والتزاما أقوى من طرف القناصلة والموظفين، في خدمة شؤون الجالية.

شعبي العزيز،

إن السياسة الخارجية لبلادنا، تعتمد دبلوماسية القول و الفعل، سواء تعلق الأمر بالدفاع عن مغربية الصحراء، أو في ما يخص تنويع الشراكات، أو الانخراط في القضايا والإشكالات الدولية الراهنة.

فإذا كان البعض قد حاول أن يجعل من 2016 “سنة الحسم”، فإن المغرب قد نجح في جعلها “سنة الحزم”، في صيانة وحدتنا الترابية. فمن منطلق إيماننا بعدالة قضيتنا، تصدينا بكل حزم، للتصريحات المغلوطة، والتصرفات اللامسؤولة، التي شابت تدبير ملف الصحراء المغربية، واتخذنا الإجراءات الضرورية، التي تقتضيها الظرفية، لوضع حد لهذه الانزلاقات الخطيرة.

وسنواصل الدفاع عن حقوقنا، وسنتخذ التدابير اللازمة لمواجهة أي انزلاقات لاحقة. ولن نرضخ لأي ضغط، أو محاولة ابتزاز، في قضية مقدسة لدى جميع المغاربة.

شعبي العزيز،

إن حرص المغرب على تنويع شركائه، لا يوازيه إلا انخراطه القوي، في مختلف القضايا والإشكالات الدولية الراهنة.

فالمغرب يعد شريكا فعالا في محاربة الإرهاب، سواء في ما يتعلق بالتعاون الأمني، مع عدد من الدول الشقيقة والصديقة، أو من خلال نموذجه المتميز في تدبير الشأن الديني.

وهو ما أهله ليتقاسم مع هولندا، الرئاسة المشتركة للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب.

كما أن بلا دنا تنخرط بقوة، في الجهود الدولية لمواجهة التغيرات المناخية، حيث ستحتضن في نونبر المقبل، المؤتمر الثاني والعشرين، للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة، حول التغيرات المناخية.

وهي مناسبة لإبراز التزام المغرب، بالعمل على تنفيذ اتفاق باريس، ومواصلة دعم الدول النامية، بإفريقيا والدول الجزرية الصغيرة، التي تعتبر المتضرر الأكبر من تداعيات التغير المناخي.

وبصفته بلدا فاعلا في مجال التعاون الثلاثي، فإن المغرب يجعل في صدارة سياسته، توجيه العمل الدولي للاهتمام بقضايا التنمية، وخاصة في إفريقيا.

شعبي العزيز،

إن عملنا لا يهتم كثيرا بالحصيلة والمنجزات، وإنما بمدى أثرها في تحسين ظروف عيش المواطنين.

ذلك أننا نضع البعد الإنساني في طليعة الأسبقيات. فما يهمنا هو المواطن المغربي، والإنسان بصفة عامة، أينما كان.

وإننا نحمد الله تعالى، أن وفقنا لجعل المغرب على ما هو عليه اليوم: فضاء لأوراش البناء والتنمية، وواحة أمن واستقرار؛ رغم إكراهات سياق دولي، مطبوع بتوالي الأزمات، وتزايد التوترات.

ونود بهذه المناسبة المجيدة، أن نعرب عن تقديرنا وشكرنا، لكل القوى الحية، ولكل المغاربة الأحرار، الغيورين على وطنهم، على انخراطهم القوي، إلى جانبنا، في بناء مغرب الوحدة والحرية والتقدم، ووقوفهم الحازم في مواجهة المؤامرات الدنيئة، التي تحاك ضد بلادنا.

كما نوجه تحية تقدير، للقوات المسلحة الملكية، والدرك الملكي، والقوات المساعدة، والأمن الوطني، والوقاية المدنية، والإدارة الترابية، على تفانيهم وتجندهم الدائم، للدفاع عن وحدة الوطن وسيادته، والسهر على أمنه واستقراره.

والله تعالى نسأل أن يوفقنا في أداء الأمانة، التي ورثناها عن أجدادنا، مستحضرين، بكل إكبار وخشوع، أرواحهم الطاهرة، وفي مقدمتهم جدنا المقدس، جلالة الملك محمد الخامس، ووالدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواهما، وكافة شهداء الوطن الأبرار.

وسنواصل مسارنا الجماعي، بكل حزم وعزم، من أجل عزة المغرب، وخدمة أبنائه.

وستجدني، شعبي العزيز، كما عهدتني دوما، خديمك الأول، حاملا لانشغالاتك وقضاياك، متجاوبا مع تطلعاتك، في كل الظروف والأحوال.

” قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته” .