كلمة السيد رئيس النيابة العامة بمناسبة تكريم سيدي محمد العلمي مشيشي وزير العدل الأسبق


5 مارس 2018

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه

أيها السادة؛

عذراً لكم، فأنا في حضرة الشريف سيدي محمد العلمي مشيشي تعتريني دهشة تلميذ بصدد المثول بين يدي ممتحنيه ..

ولِدهشتي أسباب ..

أدناها وقوفي أمام هرم علمي شامخ ..

هذا الرجل الذي كتب “القانون المبني للمجهول” هو علم شاهق العلو تطال هامته العلمية عنان السماء، وتجوب سمعته آفاق الدنيا محمولة على السحب .. سحب حبلى بالمؤلفات .. يهطل منها غيث العلم مدراراً، يسقي عقول الطلاب ويروي عطش الباحثين …

عذراً ..

فنحن لسنا أمام رجل .. مجرد رجل؛

نحن أمام مدارس في رجل؛

مدرسة القانون .. ومدرسة الأدب .. ومدرسة اللغة .. بل مدارس اللغات .. ومدرسة الفقه .. ومدرسة الفلسفة ..

استمعوا إليه يقول :

“يبدو أن القاعدة العلمية الدقيقة لا تحتمل تعدد المعاني والتأويلات .. ومع ذلك تفاجئنا الحياة اليومية بتطبيقات غريبة يصعب على العالِم المتشدد إرجاعها إلى المدلول الذي أراد الوصول إليه من خلال القاعدة التي حددها.
وتواضعا منا وحياءً من العلماء، لن نأخذ أمثلة معقدة لتوضيح الملاحظة، ونقتصر على حالات يمكن للمتخصصين في علم الاجتماع أن يفسروها بمعطيات مختلفة عن قوانين الرياضيات والفيزياء وغيرهما. في هذا المستوى لوحظ استعمال الكسكاس الذي صنع لتسلل البخار إلى حبات الدقيق، في مجال الهوائيات الملتقطة لما تبثه محطات التلفزة، ولوحظ أيضا أن آلة غسيل الثياب تم استعمالها في مخض الحليب واستخلاص الزبدة”.

أي رجل هذا ..

هل نقول أنه ينبئ عن نفسه بتواضع العلماء ؟ أم ندرك أنه في تواضعه شامخاً كالأهرامات ؟! أم أنها أنفةُ رجل معتد بنفسه وبعلمه، وامتلاءٌ بالفخر والكبرياء يعلنها مدوية للملأ مستشهداً بقريض المتنبي :

أنامُ مِلْءَ جفوني عن شوارِدِها

ويسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصِمُ

هل نقول عنه أنه عالم اجتماع يرصد حركات كافة الناس وسلوكاتهم اليومية البسيطة ليدقق في تفاصيل المجتمع .. ؟

أم نقول عنه أنه عالم فيزياء يتابع الاختراعات .. ويرصد قواعد الطبيعة ؟

أم نكتفي فقط بمعاينة هذا الأسلوب السهل الممتنع ؟

“السهل الممتنع” .. تعبير لا يكفي للدلالة على قوةِ بلاغة الرجل، وتملكِه لقواعد البيان وتلاعبه بقواعد العربية .. ينشر ذررها بسخاء .. ليس لمجرد استعمال صيغ المبالغة والطباق والجناس وما حولها .. ولكنهُ يرتب أحكاماً في القانون قياساً على قواعد النحو والصرف.

لِنَسْتَمتِْع مرة أخرى بهذه الفقرة من تمهيد كتابه “القانون المبني للمجهول” :

“مِنْ هذه الزاوية لعمري أن علماءَ النحو واللغة والصرف كانوا أكثر موضوعية وقرباً إلى ما يميز الإنسان من اللامتناهي من المتغيرات والمجاهيل وصدق الله العظيم “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”. فبناء الفعل للمجهول دال على احتمال إتيانه من أي شخص. ووضع القانون يفترض فيه أنه لا يقصد شخصاً بذاته، لكنه في النهاية يتجسد في شخص معين، كما يصبح الفعل المبني للمجهول معلوماً حين يُلاحَظُ إِتيانُه من مخلوق محدد”.

لله درّه هذا الرجلُ المدارسَ .. كيف صاغ فكرة قانونية بسيطة متداولة حول تجرد القاعدة القانونية وعموميتها إلى قاعدة لغوية تتحول من المجهول إلى المعلوم.

ليس هذا فقط، تابعوه وهو يتحدث عن الفقيه القانوني المجتهد الذي يكتشف خطأ آرائه السابقة ويقول عنه أنه “لما يصطدم بعيوبه يَذَّكَر فوراً أنه لم يُوتَ من العلم إلاَّ قليلا، وأن أحلى الكلام لا يعصم من نشاز النغم، وأن اللغة والتصْرِفَات بيانٌ وبديعٌ وجناسٌ، في غزل دائمٍ وصيغِ المبالغة والتشبيه والتورية والاقتباس والإيجاز، والإنسان في لَهَثٍ مستمر وراء الحصيلة الملموسة، ولن يستطيع لها توقيفا أو تحديداً ولو برع في مداعبة ميزان الذهب”.

أيها السادة؛

هل نقرأ لكبير النحاة وشيخ البلاغيين … أم إنها مجرد لمسات شاعر رقيق الإحساس؟!

لا أيها السيدات والسادة إنه يكتب عن قواعد القانون .. وأي قانون، قانون الإعلام … أو ما سماه هو نفسه بمهنة الكلام. وفي رأيه “يصبح الكلام خاضعاً للقانون .. لكن الصمت يبدو ممتنعا لما ينطوي عليه من مجهول، بحيث يمكن أن يدل على فراغ أو على فوضى عارمة يؤدي كَتْبُها بصاحبه إلى حتفه، وفي أحسن الأحوال إلى تضخيم المجهول من خلال الانفرادية واللامبالاة وصور الروابط الإنسانية والاجتماعية في نهاية المطاف، ويُفْرِزُ تحليلَ عناصر الحبل الرابط مُكَوِّنةً ثانية تتجلى هذه المرة فيما بعد الكلام المباح …”.

هل نقول إنه مجرد فقيه متبحر في علوم القانون ويجيد صيغ البلاغة ويحوزُ ملَكات اللغة ؟!

لا شك أن وراء كل ذلك فيلسوف حالم أيضاً. هذا الفيلسوف الحالم .. عرفته عن قرب سنة 1993 .. كان قد عين منذ أشهر وزيرا للعدل خلفاً لرجل عظيم ندعو له بالرحمة والمغفرة هو السيد مصطفى بلعربي العلوي ..

نزل السيد محمد الإدريسي العلمي المشيشي بزنقة المامونية واعتمر مكتب الوزير بالطابق الثالث من العمارة التي كانت قد اكتمل بناؤها في ذلك الإبان .. ولم يستهوه المكتب الجديد .. لذلك قرر أن يغادره ليطلع على واقع المحاكم ..

كنت آنذاك وكيلا للملك بمدينة ابن سليمان .. وكان لي مع زملائي المسؤولين القضائيين لقاءً أسبوعياً، زوال كل خميس، مع السيد الوزير وطاقمه بمقر محكمة الاستئناف بالدار البيضاء لمناقشة القضايا التي تشكل نقط ضعف في نظام العدالة كالتبليغ والتنفيذ ..

لم أكن آنذاك متعوداً على مجالسة الوزراء … وكانت هيبة منصب الوزير تَعْقِد الألسن وتُلَجِّمُ الأفواه .. ولكن وزيرنا كان رجلاً بسيطاً يشجع على النقاش والحوار .. نتحلق حوله وهو يحلل ويناقش ويروي القصص والحكايات والنكث والمضحكات، ويستعين بحركات يديه ورأسه، والابتسامة لا تغادر محياه إلاَّ لماماً.

تحسبه وهو ينشر جو المرح من حوله صديقاً حميماً .. أو مجرد زميل في العمل يناقش ويحلل ببساطة ويسر .. ولا يتردد في رواية حكاية أو سرد نكثة أو في اقتراح حلول ما كانت تخطر لنا على بال. وأصبح لقاء الخميس لازمة في برنامجنا الأسبوعي لمدة شهرين على الأقل، أنهتها عطلة الصيف التي كانت على الأبواب على ما أذكر.

أذكر أنه خلال هذه الفترة كانت بنايات المحاكم الابتدائية بالدار البيضاء التي تأوي حاليا المحكمة الزجرية )عين السبع( والمحكمة التجارية )سيدي عثمان( والمحكمة الاجتماعية )الألفة( مجرد هياكل مهجورة، كانت مصالح وزارة الداخلية قد تولت بناءها تنفيذا لأوامر جلالة الملك المغفور له الحس الثاني وصممها ضمن المركبات الإدارية المجاورة لها المهندس المعماري المشهور باكار .. ولكن بناءها توقف وأهملت. وقد جعل السيد الوزير محمد الإدريسي العلمي مشيشي موضوعها نقطة محورية في لقاءات الخميس، وانتهى المآل إلى استئناف الأشغال بها، وستسلم لاحقاً لوزارة العدل، واتخذت مقراً للمحاكم الابتدائية آنذاك بعين السبع والحي الحسني عين الشق وبن مسيك سيدي عثمان، لتتحول لاحقاً إلى ما هي عليه اليوم )المحكمة الزجرية والمحكمتين التجاريتين، والمحكمة الاجتماعية بمدينة الدار البيضاء(.

أذكر كذلك أن خلال تسييره لوزارة العدل، كان الشريف المشيشي لا يتردد في فتح الملفات الشائكة .. لم يكن يريد أن يكون مجرد وزير يستطيب ليونة الكرسي الفخم وينعم بلقب “صاحب المعالي والسعادة” وهلم جراً من ألفاظ التعظيم والتقدير التي من شأنها أن تنبت على جوانب صاحبها ريش الطاووس وما يمثله من خيلاء … وبهذه الروح اقتحم موضوعاً شائكا حين وقَّع مع وزير الدولة في الداخلية السيد إدريس البصري المنشور المشترك رقم 1025 الموجه للمسؤولين القضائيين والولاة والعمال بشأن تدبير طلبات استعمال القوة العمومية، والذي كان بمثابة “تشريع” حدد مفهوم تهديد الأمن والنظام العام، الذي كان السادة الولاة والعمال يستندون إليه لإبداء آراء سلبية بشأن تسخير القوة العمومية وتم إخراج الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمنفَّذ عليهم من دائرته التي أصبحت تقتصر على الاضطرابات الجماعية التي تهدد المجتمع أو تشكل خطراً على الأمن العام.

وما ذكرت هذا المنشور الذي يحمل رقم 1025 بتاريخ 7 شتنبر 1993 إلاَّ لأنني عايشت مرحلة اتسمت بتجميد تنفيذ الأحكام بمقتضى كلمات قليلة تتضمنها مراسلات السلطات المحلية إلى المحاكم تشعرها فيها بتعذر التنفيذ لأن تسخير القوة العمومية من شأنه تهديد الأمن والنظام العام .. وجاء المنشور المشترك للوزيرين ليرد للأحكام هيبتها ويعيد لها قوة النفاذ .. ولا أريد أن أقول أكثر من هذا في هذا المقام.

لم يطل مقام السيد الوزير بزنقة المامونية .. ولذلك لم أعد ألقاه إلاَّ لماما في بعض الندوات والمؤتمرات .. أو حينما أرجع إلى مؤلفاته في المواضيع الجنائية لحل ألغاز المواد.. ومؤلفاته كثيرة يكفي أن أذكر من بينها :

– المسطرة الجنائية : الجزء الأول والثاني، المؤسسات القضائية، منشورات جمعية تنمية للبحوث والدراسات القضائية، سنة 1991؛
– القانون المبني للمجهول : منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية، سنة 1991؛
– Droit commercial fondamental au Maroc;
– Droit commercial instrumental au Maroc : Contrat commerciaux, Moyens de crédit, moyens de payement;
– Procédure pénale;
– Concurrence, droits et obligations des entreprises au Maroc, 2004;
– Droit commercial fondamental au Maroc, Dar Al Kalam, 2006.

التقيت بالأستاذ المشيشي مرة أخرى في اللجنة العلمية لصياغة مشروع قانون الصحافة الجديد في سنة 2012، ثم في الهيأة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، حيث كان يسعفني الحظ أن أجاوره في المكان الذي كنا نقتعده داخل اللجنة .. وفي بعض المرات كان يفصل بيننا أخي وصديقي الأستاذ عبد الله حمود .. وفي هذه المرحلة ازددت تعرفا على الأستاذ الكبير، فاكتشفت أن أفكارنا تتطابق في الكثير من المواضيع في أغلب الأحوال .. وأننا نتقاسم الكثير من النظريات .. ومعاً نحلم بالمجد لعدالة بلدنا .. عدالة تنصف المظلوم وتردع الظالم .. تنتصر للحق وتكسر شوكة الجور .. وتوفر الأمان وتحقق الأمن القضائي.

الكثيرون يتذكرون – خلال جلسات الحوار – المواقف الحاسمة للأستاذ المشيشي والتي لم تكن تقف على الحلول الوقتية لمشاكل العدالة، ولكنها في الغالب تتسم بتلك النظرة المستقبلية المشبعة بفكر فلسفي يصاغ غالباً بروح الدعابة والمرح ..

قال لي مرة وهو يشير بأصابعه على شكل التهديد بمسدس وابتسامته الجميلة تملأ الأفق : “أنت خطير” !… كنتُ آنذاك قد تدخلت مقترحاً على أعضاء الهيأة وضع توصيات بشأن الإدارة القضائية” التي لم تكن الهيأة قد تناولتها من قبل في نقاشاتها .. لم أفهم تعليق الأستاذ المشيشي آنذاك .. رددت بذهول “أنني أحاول فقط أن أثير الانتباه إلى ضرورة تلافي الفراغ .. لأن الفراغ قاتل”.

الآن أدرك .. أو الآن فقط رُبما أدرك ما كان يعنيه الأستاذ النابغة .. فالإدارة القضائية مطية لتهديد استقلال القضاء. فلله درّك أستاذي الكبير. فقد فاتني إدراك ذلك لأنني لم أُعْرِب أدوات الشرط. ولو فعلت لأدركت ما كتبتَه من زمان )وهذا قولك( :

“إذا طلب المعلم من تلميذه إعراب النظام الإداري للكلام، فإنه لا محالة يرمي تدريبه على تطبيق أدوات الشرط، فحرية الطباعة والنشر وترويج الكلام جواب لشروط تتأرجح بين التصريح والإبداع والترخيص أحيانا، والتحري والصدق والسبق وامتلاك الأجهزة والأموال والفوز بمساعدة الأطر البشرية المختلفة، والتمتع بابتسامة الحَظ في بعض الحالات. تبقى الممارسة الكلامية معلقة بإِنْ وما وإذما ومَنْ وإذا، علاوة على مهما وحتى وأيان وأنى. وتعبث بها مراراً عوامل الزمن والمكان والظروف الذاتية والموضوعية وهوس الإعلان والمنافسة، فلا يظل لها مناص من أينما وحيثما وكيفما ولما وكلما التي لا تنزعج من لولا وأي، ولو وحتى وأما”.

الأستاذ المشيشي … ما أبدعك !!
حين استمع إليك … أتعلم
حين أقرأ لك … اتبحر في العلم ..
حين أجالسك … أستفيد …
حين أرى بسمتك … امتلئ أملاً
حين أرى نظرتك الحالمة … يسرح فكري بحثاً عن أفكار لعلها تحل إشكالات تكون محل نقاشاتنا .. فيحملوننا إلى برِّ الأمان.
بارك الله لنا فيك .. وحفظك رمزاً لعلماء القانون العظام الذين يضعون أقدامهم على الأرض وتشرئب أنظارهم إلى الأفق البعيد لاستشراف المستقبل.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الوكيل العام للملك

رئيس النيابة العامة

مَحمد عبد النباوي